الحرية فالعقل فالحريّة
بماذا يتميّز الإنسان؟ سؤال -في أصله- يفصل بين الواقع والتطلّع. فهل ثمّة فصل بين تعريف الإنسان بـ “الوجود الواقعي” و”وجود الشرف”؟ يمكن القول إن الإنسان في زمننا المعاصر يُعرّف بـ “الإرادة الحرّة”، أي ما سمّي بـ “الحريّة”، مع اختلاف دلالاتها، بحسب معطيات تاريخية أوربيّة في أصلها. وحتى لا نكون في موقف المتلقي السلبي، فلنفحص على الأقل أشهر ما أُلقيَ إلينا من تمييزات. وقد ميزتها وفق مستويين: “مستوى الشرف الوجوبيّ” و”مستوى الوجود الواقعي”.
“مستوى الشرف الوجوبيّ”
أ: حُريّة الشرف:
من دلالات الحريّة في السياق العربيّ: ما ارتبط بالإنسان، بعدّها دلالة على الشرف، والسؤدد، والحسب…، فالـ “حُرّ” من ورِث حسباً ونسباً، وشرّفه بأخلاق العزّ والسؤدد، وما يتطلّبه ذلك من حُسن تربية ورعاية، ليتحلّى بالفضائل، ولا يُشان بالرذائل. وأما “الحريّة” الفعليّة فأشرف من في القوم، وهامتهم[1]. فدلالة اللفظين دلالة خُلقيّة رفيعة، تسم الإنسان بـ “الشرف” المكتسب، وأمّا شرطه فقد يكون موروثاً (معطى). فالحريّة دلالة خُلقيّة لا مجرّد وجود واقعيّ، فميزة الإنسان بـ “شرفه”؛ والشرف فعالية لا تسوّى بسكون الوجود، الذي يتساوى فيه الجماد مع الحيّ.
وقد حدثت النقلة النوعيّة لرفعه إلى “كرامته” بالإسلام، انطلاقاً من “شرف” إلى “كرامة”، وقد شُرع “التحرير” تحريراً للعبيد، لا مجرد العتق من الِملك، بل لينخرط في عالم الأحرار، طالباً خصالهم وفضائلهم. فالتحرير (وفي أصله تحرير من الشوائب، والمعدن الحرّ هو الصافي، كذهب حرّ) تحريران: تحرير من عبودية الناس وهو “العتق”، وتحرير لله وهو نذر الحياة لله “إني نذرت لك ما في بطني محرراً” (مع تحفظ على دلالة الرهبانيّة). فالتحرير في الإسلام بين درجة “الخُلق الأشرف” أو “السموّ الروحاني الأكرم”، وليس مجرّد تخلّص من ماديّة تملّكيّة، وترقية لوضع اجتماعيّ.
ب: عقل الشرف:
ولأن الإسلام جاء بفيض العلم، وشدد عليه، وانهمرت بحاره؛ جُعل شرف الإنسان من شرف معلومه، غير أن دلالة العلم وجدت لها في موروثٍ منقولٍ ملامح شبهٍ، فتغلغلت الثقافات المتاخمة، ومن ثمّ تحوّلت الدلالة إلى مميّز عِلميّ، وهو القوّة الإدراكيّة “العقل”، المرتبط بتحصيل السعادة والفلاح فلسفيّاً، ويوازيه ويداخله أحياناً “العقل العملي”؛ وهو عقل يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالتدبير: “تدبير النفس” بالأخلاق، و”تدبير المنزل”، و”تدبير المدينة” بالسياسة. ومن بقي من المتأثرين على إرث أفلاطون، جعل المدينة مرآة عاكسة للنفس، فتعريف الذات من تعريف المدينة.
وفي المرحلتين الجاهلية والإسلامية المختلطة بالإرث الإغريقي؛ بقي المميز والمعرّف الإنساني وفق مرتبة “تعريف الإنسان بشرفه” (حريّة أو عقل)، أي عملية إيجابية لاكتساب الفضائل. والوجود الاجتماعي (قبيلة/ مدينة) شرط سابق على المحددات الخُلقيّة، التي يُنمّى فيها الإنسان، وهذا القيد “العنصريّ” قد حلّه الإسلام، فجاء “التحرير” بشقيّه -كما تقدّم-، ومع ذلك لم تُستثمر هذه الدلالة استثمارها اللائق بها؛ مع راهنيّة الحاجة إليها. وحُشرت “الحريّة الخُلقيّة” تحت “الحريّة الوضعيّة”.
“مستوى الوجود الواقعي”
الحريّة في الزمن الحديث هي حريّة وجود لا حريّة شرف، أي معطى خالص، لا أنّها مطلب يكتسب. فأخذوا من دلالة “الحريّة” أقل مستوياتها (المستوى الحسيّ)، وهو التخلص من الملكيّة الحسيّة (الشيئيّة)، أي تعريف بـ “الواقع” لا “الواجب”. والحريّة بهذا المعنى دلالة سلبية، وفي أصلها خروج من حقل سياسيّ لا خُلقيّ. ومع ذلك فقد عرّفها “إشعيا برلين”، وفق الحقل الفلسفيّ السياسي، بدلالتين: “إيجابية” وهي الحض على المشاركة السياسية كالنظام الديمقراطي، و”سلبية” وهي حرية عدم التدخل، وانتهاك حدود الآخرين[2]. وبيّنٌ أن هذا التعريف في أصله تعريف يفصل الأخلاق عن حقل السياسة (وفق الوضع العلمانيّ)، وكل ما يخرج من هذا الحقل لا بدّ وأن يقصي الأخلاق (في مرجعيّتها المتجاوزة، فضلا عن الدين).
وقد فصّلت كتب إسلاميّة معاصرة عند محاولة المواءمة بين “الحريّة” وفق الدلالة المعاصرة و”الحرية” وفق الدلالة المتقدمة، مع ضعف الانتباه لمستوى الدلالتين. فعولجت دلالة الحرية من ناحية الملكية والسيادة، خصوصا في بعض ما كتب عن “مقاصد الشريعة”. إضافة لمعالجة تسوّي بين “الحريّة” و”الكرامة”، مع تفاوت المتسويين الوجودي والوجوبيّ.
التنافر بين المستويين الشرفيّ والواقعيّ لدلالة “الحريّة”:
إن الدلالات قد تتوافق في مستوى معين، كتوافق دلالات الحرية السابقة على “الخلوص من الرق”، لكن هذا المستوى ليس هو مستوى المميز، بل هو مستوى التقاطع بين الواقعي والشرف، أمّا مرتبة الشرف فبعيدة؛ والحرّ المعاصر ليس هو الحرّ الجاهليّ، ولا الإغريقيّ، ولا حتى المُعتق، فضلا عن “الحرّ” المؤمن. وما لم ترتبط الحُريّة بالأخلاق، والسعي نحو الشخصية الشريفة العزيزة الفاضلة؛ سيبقى الإنسان دون مراتب الحريّة الأولى، لأنه لم يبرح ساح الواقع إلى الواجب! فلا عجب إن بات الدفاع عن مشكلات كـ “المثليّة” بسلاح “الحريّة”! في ضرب سافر لأشد امتحانات الأخلاق الإنسانيّة، في زمننا هذا خاصّة. وهذا ما نحن عليه: حريّة في مستواها الأدنى “حريّة لا خُلقيّة”، حريّة اجتماعيّة؛ تخرج الإنسان الكسول، الخامل، غير المتطلّع، المكتفي بمتعه اللحظيّة، المدمّر للإنسانيّة، لا الحرّ بروحه المتوثبة! فهو الحرّ في رسمه لا حقيقته.
[1] راجع: ابن منظور، لسان العرب، مادة حرر.
[2] انظر: يمنى الخولي، الحرية الإنسانية والعلم: مشكلة فلسفيّة، الفصل الخامس: نظريات الحريّة في العالم اللاحتمي. وآيزايا برلين، الحريّة، مقال: مفهومان للحريّة.