التراث العلمي والثقافي في الحضارة الإسلامية: منطق الاقتباس النشيط
قراءة في كتاب "الفكر العلمي والثقافة الإسلامية" لبنّاصر البُعزّاتي
يوظف الباحث المغربي بنّاصر البُعزّاتي مفهوم “الاقتباس النشيط” بدقة، ليصف عبره عملية الاستمرارية في إنتاج المعرفة بين الحضارات، وأشكال الوصل بين شعوبها، وبين نسيج الأسر العلمية، وفيما بين الحواضر العالمية الكبرى.
فاعلية هذا المفهوم الإجرائية تكمن في قدرته توصيف عملية الاستمداد العلمي للمسلمين من الحضارات الأخرى عبر تاريخهم المديد، وقدرته على توصيف عملية الدمج والتطوير والإبداع والتجديد. وهو مقياس معياري يقربنا من صورة التمازج العلمي والمثاقفة والحوار الذي كانت تشهده حواضر العالم الإسلامي، كما يقربنا من الإبداعية والحركية العلمية داخلها.
فكيف عزز التراث العلمي العربي الإسلامي ثقافة الإبداع والتعايش والحوار، ليس في متن هذه العلوم فحسب، من لغة وعلم كلام وفقه وأصول فقه، أو منطق أو فلك وطب وغيرها، بل كيف جاوز ذلك كله ليوجه الاهتمام بقيمة البيئة العلمية الحاضنة ودورها في تزكية حس الإبداع والابتكار، عبر ما منحه من قيمة للمدارس العلمية والحواضر العلمية التي شهدت حركية علمية فريدة مثل جنديسابور وبلخ ومرو وحران والرها وأنطاكية ونصيبين والاسكندرية..الخ، والتي لا نكاد نجد لها عناية تذكر عند الدارسين ممن كتب بالعربية، أو نجد عناية بالمجال المسمى “عربيا” عند الغربيين في استبعاد لحواضر إسلامية عالمية كبرى كان لها كبير الأثر في تشكل الثقافة والفكر والتراث الإسلامي والعالمي كذلك. دون أن يخالج الباحث في الموضوع استغراب بالغ من خلاصتنا الأخيرة هاته، فعائق ” .. ما سمي بالرأي القبلي الموالي للعرب (Arabistic bias). وهو أسوأ الآراء القبلية التي تعرقل الدراسات الإسلامية”، قد حصر أوجه النظر وحَدّها، وجعل من العالم الإسلامي بعبارة المؤرخ مارشال هودجسون مركزا في تشكله العربي فحسب[1]. ولذا لم تحفل بعد هذه المراكز الحضارية التي كانت مركز العالم في قرونه الوسطى بما تستحقه من اشتغال بحثي متجاوز لكل عراقيل الإرث الكولونيالي معرفيا، والقصور المنهجي علميا.
دون أن نغفل الانشداد لأهمية القوميات والاختلاف الثقافي والهوياتي في تغذية روح الشغف العلمي أولا، ودوره في تغذية ثقافة الحوار والتعايش وتطويرها ثانيا. وأخيرا قيمة الأسر العلمية ذات الإرث العلمي الممتد في مجالات تخصصية معينة، هذه الأسر التي لا يمكن إغفال الأهمية الاستراتيجية في انفتاح المجتمع الإسلامي عليها، وتحول حواضر المسلمين إلى مواطن حاضنة وداعمة لهم، وراعية لأعمالهم ومشاريعهم العلمية، بل فتحت لهم باب اعتلاء أرقى مناصب الدولة ومهامها.
يقرر البعزاتي أن عمله يروم غاية جامعة هي دراسة هذه الجوانب آنفة الذكر في تكامليتها وتركيبيتها التي ساهمت في بناء نسق الحضارة العلمي، وكشف دورها كذلك في نسج الرؤية الإسلامية للعالم. تصور يُدثره باحثنا بوصف معرفي دقيق يقتضيه اشتغال من هذا النوع؛ يكمن في اعترافه بأنه يحاول – رغم كل الشغف – الاقتراب من التاريخ الفعلي للأفكار العلمية في علاقتها بالفعالية الاجتماعية (أي استحضار البعد السوسيولوجي في المسألة)، دون أن يضع حدا للنقاش المفتوح.
فكيف قدم بناصر كل ذلك، وما هي مديات نجاحه داخل هذا العمل المعرفي الجاد ؟
1- القيمة المعرفية للكتاب
يمكن أن نصنف الكتاب ضمن الحجم الكبير حيث بلغ عدد صفحاته 399 صفحة من القطع الكبير، والصادر عن دار الأمان في الرباط، في طبعة أولى سنة 2015. والعمل يعد آخر مواده البحثية، ساير فيه نهجه ومجال تخصصه في الابستيمولوجيا، وفلسفة العلوم وكل ما يتعلق بها فيلولوجيا داخل الحضارة الإسلامية، مع استرعائنا مزج البعزاتي المنهجي بين جديد ما تنتجه الدراسات البحثية الغربية في هذا المجال والعَود بها على نسق الفعالية العلمية داخل تراثنا.
يمكن أن نسم العمل الذي بين أيدينا بالأكاديمي غير المتخصص، والذي يمكن لكل باحث في الثقافة والمعرفية الإسلامية، وجل المنشغلين بأرقِها المعرفي الاستفادة من العمل بل ودفعه لرصيدهم من التفكير نحو مزيد من التوثب والاتقاد والشغف لما يمكن استيلاده من رماد ما اعتقد الكثيرون حسم النهايات المعرفية فيه.
لكن، وبعيدا عن الاشتغال الأكاديمي المدرسي، الملتزم بشرطيات البحث المستلزمة لضمائم لابد من احترامها، وعبر تقنية فصوله موزعة المواضيع جسد بناصر دور العالم الذي يحفل مَقْرُوءه بالعديد من الملاحظات والنُقود فيأتي عليه زمان يَمتاز لها مُصحفا جامعا وكتابا من كتبه، لتدون كخلاصات ذات أثر بالغ لكل من رغب في تلقف نقود نابهة تراكمت وتراكبت أسئلتها ونصوصها وخلاصاتها فانتسجت في قشيب معرفي، باد عليه أثر الزمن وأثر المراس وأثر التراكم، مما يمكن للباحثين الاسترشاد به في الدخول على التراث الحضاري الإسلامي، دخولا جديدا ومستأنفا غير منقطع.
قُسم الكتاب إلى مقدمة وخاتمة وستة عشر فصلا. شملت مواضيع من قبيل وظائف الدولة، وعلم الكلام والجدل الديني، ومجال الفقه والأصول، ومجالس اللغة العربية، والطب والمنطق والفلك والرياضيات والعلوم الميكانيكية والتطبيقية. وسيد عناوين هذه الأبواب والذي ظل دائم التكرر والمعاودة داخل جل فصول الكتاب هو “الدمج والتخصيب“.
وقد نجح المؤلف إلى حد كبير في رصف هذه الفصول كي تخدم أغراض بحثه، والتي يمكن أن نختصرها في سؤال جامع هو: كيف استطاع المسلمون أن يستوعبوا علوم عصرهم وثقافاته ويدمجوها في نسج حضارتهم الإسلامية؟، بصيغة أخرى؛ كيف تمكنت الحضارة الإسلامية من استيعاب إثنيات عديدة، ومرجعيات دينية مختلفة، وعلوما شتى؟، لتدمج بينها في استثمار ذاتي لكل هؤلاء دون أن يستشعر أي منهم غربته عن الانتماء لهذه “الأمة” التي قد تتجاوز في أبعادها الحضارية الانكفاء على مجرد موصوفة الدين فحسب.
ما يعنيه هذا التحليل، أن حضارة الإسلام، ليست كما يصور الكثير من الباحثين سواء من المستشرقين أو من تبعهم من المسلمين، ذات بعد واحد ورهينة نهاياتها اليوم، بل حدثت عبرها تفاعلات واندماجات بين العلماء والعلوم والأسر العلمية، وبين الوظائف والمهن والحرف والفنون، وتقلبت بينها التنافسيات بين كل هؤلاء بانتماءاتهم وهوياتهم وجغرافياتهم ومرجعياتهم الدينية، لكن الحضارة الإسلامية وفقت إلى حد بعيد في دمج كل هذه الخصوبة لصالح انتشارها وصالح تطور المعارف والعلوم داخلها.
2- جغرافية العالم الإسلامي ومسارات العلم والمعرفة
لعل أول ما قد يلفت الباحث حين يطالع الكتاب، ذلك التوارد الحاصل للعديد من أسماء مدن دَرَسَ ذكرها، وحضرت في مقابلها حواضر أخرى لم تبلغ يوما ما كانت عليه الأولى من تقدم وتقليد علمي رصين ومتوارث.
فمثلا حاضرة جنديسابور وبلخ ومرو وحران والرها وأنطاكية ونصيبين والاسكندرية، ثم جاءت بعدها الحواضر الأخرى في بلاد الهند، وتلتها حواضر آسيوية وأفريقية. ولهذا يعلق البعزاتي على كيفيات استمرار انتعاشة العلوم داخل هذه الحواضر، بأن ” استمر مفكرون غير مسلمين وغير عرب يناقشون ويكتبون بلغاتهم (خصوصا السريانية) تحت ظل الدولة الإسلامية، أو يكتبون باللغة العربية في نفس الوقت قصد توسع المناقشة، مثل يوحنا الدمشقي وعمار البصري وثيودور أبو قرة وأيوب الرهاوي وأبو رائطة التركيتي”[2].
حسب خصوصيات الجغرافية الثقافية التي تنتقل إليها الأفكار بعد تراجعها في مصر من الأمصار لتنتعش في أخرى، فتتغير بذلك وجوه الاقتباس بناء على انتقائيات مغايرة وعمليات تكييف وإدماج وتأويل جديدة. هذه السمة المعرفية الدارجة التي تلبستها الحضارة الإسلامية بنجاح جعلت العديد من المهن والصنائع والحرف تجد موطئا لاستمرارها بل وازدهارها المتجدد، ولنا في مهنة الكتابة في الدواوين السلطانية خير دليل، باعتبارها جسدت نوعا خاصا من الصنائع لابد للمتأهل لها أن يجمع بين الخبرة والمعرفة والدراية باللغات وتقاليد الشعوب الأخرى في السياسة والحكم وغيرها، لتستمر عبر هؤلاء تقاليد حافظت عليها أسر علمية ظلت شغوفة بالريادة والترقي الاجتماعي، هي التي جسدت الانتماء لجغرافيات وأزمنة سابقة على الإسلام، ولهذا كان جل متعاطي هذا النوع من المهن من غير العرب وغير المسلمين[3]، ولعل هؤلاء من يقصدهم الجاحظ بحنقه البالغ الذي أعرب عنه في رسائله، حينما خصّهم بواحدة عنونها “كتاب في ذم أخلاق الكتاب“[4]. بل يصور لنا هذا العَلَمُ الكبير حجم التنافسية التي كانت حول تولي المناصب وريادة العلوم والمهن، عندما أعرب عن أسفه البالغ لحال بعض الأطباء من ذوي الأصول العربية ممن أصاب مهنتهم الكساد رغم انتشار الأمراض حسب التصوير البارع للجاحظ ، مبرزا بالعَرض ذلك الالتفات الذي يبديه الناس للخبرات والإثنيات والعرقيات الأخرى التي تزاول هذه المهن، وإن لم يكن الإسلام دينا لها[5].
هذه التنافسيات لم تنحصر في هذه المهام بل طالت مجال المناقشات، حيث خلق علم الكلام موطنا لهذا النوع الجديد من التنافس، والذي لا يمكن أن نفصله عن توارد عرقيات وأسر ومعارف إلى الحواضر الإسلامية، لكن – وهذه نقطة تحتاج مزيد نقاش ومدارسة – لا يمكن أن نستبعد كونه علما يمتلك ولادة إسلامية صرفة مع تلبس بميثولجيات سابقة أسهمت في دفعه ليأخذ شكله الإسلامي المتميز، وأن يستحيل مجالا لتنافس الفرضيات الكسمولوجية التي ولدها الاهتمام البارز عند المسلمين بفهم نظام الكون[6].
دون أن نغفل جانب الزيارات العلمية التي كانت تحصل بين المسلمين وغيرهم، مثل الزيارة الهندية للعاصمة العباسية في بغداد خلال حكم أبي جعفر المنصور[7]، إذ أفلحت هذه الحاضرة العباسية الإسلامية المتقدمة في أن تتحول لمحط جذب للشغوفين بالمعرفة من مختلف العرقيات والجغرافيات والأديان، معتمدة في ذلك على الترجمة التي أشرف عليها آنذاك علماء عارفون بجزئيات التقاليد الفكرية السابقة، أغلبهم يملك تكوينا معرفيا متقدما، ممن يُحسبون على العجم وغير المسلمين، لكن جلهم ينتمون إلى ثقافات متنوعة متداخلة، يجمع بينهم شغف البحث النظري والتجديد الفكري والرغبة في الترقية الاجتماعية[8].
موضوعة الترجمة خصها البعزاتي بفصل خاص عنونه ” مسالك الترجمة وأطرها “، والتي لم تكن نقلا سلبيا – في نظره-، بل نقلا أدمج المعرفة المُترجمة في سياقات ثقافية جديدة، جعلها مرتبطة بسلسلة دينامية تراكمية للأفكار والتصورات بحسب تعبيره، ” ولهذا فالبموازاة مع الترجمة، كانت الفاعلية العقلية تنتج تعليقات وانتقادات ومحاولات لإعادة سبك الأفكار المنقولة وصقلها وصبها في قالب لغوي مقبول”[9].
هذه الجغرافية الترابية والثقافية والإثنية المتعددة، أرخت بآثارها على المنظومة الفقهية نفسها، التي قد يعتقد الكثيرون بكونها بعيدة عن هذه المؤثرات، لكن التاريخ العلمي وتاريخ الأفكار والتاريخ السوسيلوجي لتناقل المعارف والتثاقف بين الشعوب والثقافات داخل الحواضر المسلمة قد ولد مذاهب في الفقه، أو لنقل أسهم في تنويع مدارسها، فأبو حنيفة لا يمكن أن نستبعد كل التنقيص العلمي الذي جوبه به فقهه عن تنافسية عرقية عروبية نظرت له بكونه دخيلا (فارسيا) عاجزا عن تفهم التراث ولغة الدين، وفي المقابل يحضرنا محاولة نسب العديد من العلوم الإسلامية للشافعي كعلم الأصول دونا عن غيره، واستبعاد علوم أخرى عنه كالتفلسف والكلام ..الخ، لما يحسب من شرف للأول منها باعتباره خالصا، وما يسحب من نقص على ثانيها باعتباره دخيلا، ودون أن نعمم في تأثير هذه الخلاصات باعتبارها متغيرة بحسب هذه الجغرافيات من حيث حجم التقبل والرفض أو الدمج.
هذه التعليقات كلها ليست مقطوعا بها، أو يراد منها تصوير طرف أضعف أو أقوى من طرف آخر، لكنها – حسب ما يهمنا هنا – قد تمازجت داخل نسق حضاري يحاول كل منهم فيه إثبات وجوده والدفاع عن حقه في التعبير عن رؤيته التي لا يرى تنافرا بينها والرؤية الإسلامية للعالم. ولهذا، فالقدرة الكبيرة للمجتمع المسلم على دمج أمثال هؤلاء وجعلهم في مواطن الريادة والتأثير، لا يمكنه إلا أن يخبرنا عن آفاق تلك النجاعة والمرونة التي ميزت هذا النسيج الحضاري، ويمكنه أن يخبرنا عن توقعات تستحق منا مزيد دراسة حول البنيات القيمية المؤطرة للمجتمع المسلم التي جعلته يتلون بهذا الشكل المتميز داخل نسيج الحواضر العالمية الكبرى في العصور المتقدمة والوسطى لتاريخ الإنسانية[10].
3- المسلمون وقانون الولادة المستأنفة للعلوم
يحاول المؤلف في كل ما ساقه داخل الكتاب من نقول وأخبار ومعارف ومواقف متفرقة، تنتمي لتخصصات علمية مختلفة، أن يبين روح ” الاندماج والتخصيب ” باعتبار المسلمين قد استوعبوا علوم عصرهم واستوردوا كل ما يفيدهم وأدمجوه بطريقة خلاقة، ولعل الملفت بالنسبة للباحث فيما ساقه البعزاتي من نصوص تلك الرؤية للعالم التي سكنت عقول هؤلاء، ورؤيتهم لذواتهم وأشكال تمثلهم لها ووعيهم بها داخل نسيج العالم الممتد، لذا فليس نص ابن الهيثم – على سبيل المثال لا الحصر – بالذي يمكن تجاوزه دون تمعن في آفاق رؤية صاحبه والتكهن بمدياتها المعرفية والجمالية والعلمية والاجتماعية كذلك، حين يصف محاولته في تفسير ضوء القمر: ” ولما كان ذلك كذلك، ولم نجد كلاما شافيا يفصح عن حقيقة كيفية ضوء هذا الجِرم، وكانت النفوس تتوق إلى الوقوف على ماهيات الأمور الموجودة، ولا تسكن إلا عند اليقين الذي تسقط معه الظنونُ، دعتنا هذه الحال إلى البحث عن كيفية ضوء هذا الجِرم واستقصاء النظر فيه وكشف ما هو ملتبس من أمره، فجعلنا ابتداء نظرنا في تفقد أعراض جميع الأجرام المضيئة واعتبار أحوالها […]”[11].
ونردف هنا نصا آخر يزيد من تراكب تصوراتنا حول اندماج مدارك هؤلاء ووسعها، وهو الوصف الذي قدمه أبو حيان القرطبي (وف 496-1076) في حق ابن فرناس (وف 274-887) إذ قال فيه: ” حكيم الأندلس الزائد على جماعة علمائهم بكثرة الأدوات والفنون […] كان عالما مفننا فيلسوفا حاذقا، وشاعرا مفلقا، ومنجّما مطبوعا موفقا، صحيح الخاطر، ثاقب الذهن، جيد الفكر، حسن الاختراع، كثير الإبداع…”[12].
وقد لا تكتمل دائرة الاسترجاع هاته، كما لا يمكن توقع طبع العلماء ومخيالهم وعاداتهم الاحتماعية والعلمية إلا بالتعرف على تصورهم للحاضرة بما تعنيه لهم من مجال للإبداع وإنتاج المعرفة، وقد أحسن في وصفها أبو بكر الكَرَجي (وف 410-1019) إذ يقول: ” لما دخلت العراق، ورأيت أهلها من الصغار والكبار يحبون العلم ويعظمون قَدرَه ويكرمون أهله، صنفت في كل مدة تصنيفا في الحساب والهندسة، إلى أن رجعت إلى أرض الجبل، وعدمت فيها ما وصفت من حال العراق، فخمد الخاطِرُ من التصنيف، وجمد الطبع عن التأليف …”[13]. ويهمنا في وصفه هذا آخر ما ذكره من خمود الخاطر وجمود الطبع، وهي كلها تعابير تناقض الحركية والفاعلية والاندماج، التي إذا أسبغنا عليها ما مدحه في حاضرة العراق فلن تعدو حب العلم والعلماء وتقديرهم وتوقيرهم وتكريمهم، بل وتحولها لحاضنة تفتح الأفق أمام خيال الكتاب وإبداعاتهم، وقد يقول قائل أن صاحبنا إنما يطلب حظوة ومزيد عناية، وذلك وارد وصحيح، لكن مخياله عن الحاضنة التي تسهم في إبداعه وطريقة مدحه إياها هو نوع من الاعتراف الضمني بوجود هذا الشكل من المجتمعات والي شكلت مناخا اجتماعيا ومعرفيا مغريا.
ويعلق البعزاتي على دور علم الكلام بأنه “وراء عملية شحذ الأذهان والحث على الاستكشاف”[14]، ولنا أن نتأمل في السياق عينه تعاليقه حول ما جمع بين العلاّف والنظّام من مناقشات معبرة ” ..عن طموح أكيد من أجل فهم العالم الطبيعي وسبل المعرفة وشروط الصواب فيها وأسرار التاريخ الفكري للمجتمعات”[15]، وإذا ما أطلق الباحث عنان الافتراض هنا، حول طبيعة تمثل هؤلاء للعلم ومناخ المعرفة والمثاقفة وتمثلهم للحضارة وتمثلهم للإنسان كذلك، فلا يمكنه استبعاد حقيقة أن الملسمين استطاعوا خلق نموذج جد فعال يعلي من شأن المعرفة والاندماج والتعارف والرفاه، مجتمع قادر على تقبل أفكار عديدة مهما بلغت حدود جرأتها وفرادتها، ” .. كان جعفر بن حرب ( وف 236/850) وتلميذه الإسكافي ( وف 240/854) يتبنون فكرة أن العالم تجمعات من الأجسام البسيطة والمركبة، تتصل فيما بينها وتنفصل”[16].
المواقف والأقوال المُدرجة أعلاه وغيرها مما حفل به الكتاب، تفصح عن روح علمية ميزت المسلمين وحضارتهم، حددها البعزاتي في كون علماء المسلمين لم يعد يحدهم في جلب العلوم وتوليدها اختلاف الديانة أو المذهب الفلسفي والعقدي، فقد أصبحت توجههم عقيدة المعرفة التي مفادها أن العلم حصيلة مجهود فكري أسهمت فيه ثقافات عديدة، ولذا، لم يجد المسلمون تحرُّجا في طلب العلم، بل كان ذلك مدعاة فخر ومباهاة، فنجد أحدهم يقيد ما تعلمه من فلان، وما لقيه في سبيل الوصول إليه، ولم يكن وصف علماء المسلمين في العصور الوسطى بكثرة السفر والحركة وليدة تحيز أو دوغما قومية، بل حقيقة تاريخية تفسرها رؤيتهم للمعارف والعلوم والإنسان والعالم عندهم.
4- ملاحظات نقدية مكملة لطروحات الكتاب
رغم الأهمية الملحوظة للكتاب وسياق تتبعه لنقاط مختلفة من الإرث العلمي للمسلمين، وتاريخ تطور الأفكار عندهم، إلا إننا لا نعدم نقاط اختلاف معه، بالأخص فيما يتعلق بأحكامه التعميمية حول مجموعة من القضايا، ولعلنا سنورد منها ثلاثا على سبيل المثال. أولها حكمه بأن الإسلام من حيث هو معتقد ديني لم يسهم بأي قسط يذكر في تطور النظر العلمي، ونعتقد أن البعزاتي قد سارعه هاجس الحَكَمْ في استصدار الحُكم على هاجس الباحث في تفضيل التحليل والتأويل والافتراض، وقد كان الأرجح في اعتقادنا أن يدعو للكشف عن التعالقات الموجودة بين المدخل العقدي والمدخل العلمي، تثبتا وليس بناء على مواقف حدثت هنا وهناك عبر تاريخ المسلمين المديد، ولعلنا نستحضر – على سبيل التساؤل النقدي – التحليل الذي قدمه أرماندو سالفاتوري حول تطور التجارة عند المسلمين وتسيدهم على نسق التجارة العالمي في العصور الوسطى ومنافستهم الشرسة للصين على طريق الحرير آنذاك، والتي كان لمعتقداتهم دور كبير فيها دون شك، كما يمكننا استحضار نظرة الشريعة نفسها للرفاه الإنساني وتبنيها لتصور خاص حوله[17]. بل إن المؤلف نفسه في سياق حديثه عن تطور فنون العمارة عند المسلمين في مقابل خفوت الفنون التشكيلية يقر بأنه ” قد كانت القناعة الدينية ممتزجة بالميول الفكرية والأذواق الشخصية لدى الأفراد والفئات”[18].
من الأمور الأخرى التي لم نستسغ أحكام المؤلف فيها، وصفه النسيج الفقهي بالتزمت، ونراه في ذلك قد أبخس هذا التجمع النخبوي داخل المجتمعات الإسلامية دوره وعلائقه بجهات وأفكار مختلفة، بل يغالبنا الاعتقاد أحيانا أن البعزاتي قد وقع في ذلك المحذور المنهجي عندما يحاكم هؤلاء وفق سياق ومنطق غير سياق الفقهاء آنذاك، وإنما هو سياقنا مجتمعاتنا اليوم. ولذا كان حريا به احترام خلاصته التي أقرها حول النظر الفقهي التشريعي، الذي لابد فيه أن يتأثر “.. بأمور عدة: المستوي الفكري للفقيه، وانتماؤه القومي، ونوع علاقته بالسلطة الحاكمة، واختيارته الأخلاقية والسياسية”[19].
أخيرا، من النقاط الأخرى التي تحتاج اشتغالا مستفيضا، ما أقره البعزاتي من خلاصات حول قرار بعض الحكام المسلمين قديما تعميم العربية وتسيُّدها على غيرها من اللغات، حيث اعتبر القرار – بنوع من النسبية – قد أسهم في تراجع الاهتمام باللغات غير العربية، بل ارجع له بعض الدور في تراجع الخصوبة الفكرية على المدى البعيد[20]، وهو موقف يقتضي في نظرنا قبل تقريره تنويع مداخل قراءة هذه المسألة، إذ قد تعني من جهة انحسارا وانكفاء على الذات، لكنها ولعدم حصول ذلك، اقتضت قراءة أخرى تبحث في الإمكانات التي مُنحت – كفرصة – للعربية لتستحيل لغة عالمية، والتأثير الذي حققته، والحظوة والنجاعة التي اكتسبتها، ورصيد انتاجها وانتساب العلوم لها..الخ، هي كلها إمكانات ينبغي إعمال النظر فيها ليس دفاعا عن العربية أو تبخيسا لحقها، وإنما لاستيعاب أوجه من تأثيراتها الحضارية آنذاك.
في الختام لا يسع القارئ للعمل وجل جهود البعزاتي البارزة في ابستمولوجيا المعرفة داخل مجتمعاتنا الإسلامية، إلا أن يثمن هذه الأعمال الفكرية ذات الأفق الأكاديمي الكبير والعالمي، والتي يحسب لها أنها تروض العقل المسلم على هذا النوع من الدربة الأكاديمية والرياضة الفكرية، في تعقب بنيات المعرفة الإسلامية وتعالقاتها بالجغرافية والمجتمع والسياسة والمعتقد..الخ. ولعل الخلاصة الأبرز للكتاب – في اعتقادنا – أننا نعي مجددا الحاجة الملحة في إعادة التمثل والاسترجاع للتراث الإسلامي بمختلف صنوفه، متجاوزين الإرث الاستشراقي الذي أجحف الصورة حقها في التكامل والبراعة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] مارشال. هودجسون. الإسلام في التاريخ العالمي. نصوص جمعها وترجمها من الأمريكية وقدم لها عبدالسلام الشدادي. منشورات ملتقى الطرق. الدار البيضاء. المغرب. ط1. 2018. ص 134.
[2] بناصر البعزاتي. الفكر العلمي. ص 39. ونلفت هنا للمراجعة الجيدة التي أنجزها الباحث جوش ماكلور Joshua Mugler والتي عنيت بالمسار المعرفي والاجتماعي ليوحنا الدمشقي، وقد عنونها بـ ” إعادة تمثل الهوية المسيحية في العالم الإسلامي ” حول كتاب بيتر شادلرز Peter Schadler الموسوم بـ :
“John of Damascus and Islam: Christian Heresiology and the Intellectual Background to Earliest Christian-Muslim Relation “
يمكن استرجاع هذه المراجعة بالإنجليزية على الرابط التالي:
- https://marginalia.lareviewofbooks.org/reimagining-christian-identity-in-a-muslim-world /
[3] البعزاتي. الفكر العلمي. ص 126.
[4] أبي عثمان عمر بن بحر الجاحظ. رسائل الجاحظ. الجزء الثاني. كتاب في ذم أخلاق الكتاب. تحقيق عبدالسلام هارون. الناشر مكتبة الخانجي بالقاهرة. أنظر ص 189.
[5] البعزاتي. الفكر العلمي. ص 26.
[6] نفسه. ص 48.
[7] نفسه. ص 102.
[8] نفسه. ص 126.
[9] نفسه. ص 130.
[10] أنظر. مارشال هودجسون. الإسلام في التاريخ العالمي.
[11] البعزاتي. الفكر العلمي. ص 234.
[12] نفسه. ص 113.
[13] نفسه. ص 110.
[14] نفسه. ص 51-52.
[15] نفسه. ص 51.
[16] نفسه. ص 47.
[17] أرماندو سالفاتوري. سوسيلوجيا الإسلام. منشورات السبكة العربية للأبحاث والنشر. بيروت. طَ. 1. 2017م.
[18] بناصر البعزاتي. الفكر العلمي. ص 141.
[19] نفسه. ص 57.
[20] نفسه. ص 335.