أي تربية لما بعد الكورونا ؟
التربية التقليدية، التربية النشيطة، التربية الحوارية، تربية الحداثة والبنائية، تربية ما بعد الحداثة، كفايات القرن الواحد والعشرين، وأخيرا تربية ما بعد الكورونا.
وهنالك “التربيات على” éducations à، على القيم، على البيئة، على الصورة، على المواطنة، على الحس النقدي، على العيش المشترك…الخ.
وهنالك التربية انطلاقا من وضعية مشكل، وقبلها بيداغوجيا المشروع، والتربية المؤسسية، والتربية الوظيفية، والتربية الفارقية، والتربية الإفرادية، والتعليم المستجيب enseignement répondant، ثم الفصل أو القسم المعكوس classe inversée، واستخدام تكنولوجيات المعلومات والاتصال في التعليم les TIC…الخ.
الآن نحن إزاء وضعية- مشكل حقيقية وليست تعليمية اصطناعية. وهي لا تتمثل فقط في مشكلة الانقطاع الإجباري عن الدروس الحضورية، وحرمان التلاميذ من استكمال مقرراتهم الدراسية واكتساب الكفايات التعليمية والتربوية المنتظرة لهم، بل مشكلة أكبر من هذه بكثير. وهي كيف نكون مؤهلين للبقاء على قيد الحياة وفي صحة جيدة في مواجهة الأوبئة المتكاثرة التي تجتاح عالما، نوعا من بعد نوع وطفرة من بعد طفرة. وكيف نخرج من حروبنا مع هذه الجيوش المجهرية بأقل الأضرار الصحية والاقتصادية والنفسية والتنظيمية والتسييرية والأمنية والتواصلية والتربوية وغيرها؟
أي ما هي الكفايات التي يجب أن نربي عليها النشء والشباب في المستقبل حتى يضطلعوا بمهمتين أساسيتين:
أولا: قيادة الدولة والمؤسسات العمومية والخاصة قيادة حكيمة وناجعة.
ثانيا: التكيف السريع مع الطوارئ والأزمات والجوائح والاستجابة المحكمة والدقيقة والناجعة لها، وتطويقها في أسرع وقت وبأقل التكاليف والخسائر البشرية والمادية.
ثمة صنفان كبيران من الغايات التربوية:
غايات قيمية، مثل الأخلاق، ومثل القيم الروحية والقيم المهنية، والقيم الجمالية، وغيرها…
غايات-وسائل أو غايات- كفايات. وهي كفايات لامادية، مثل التفكير العقلاني والكفايات المنهجية بأنواعها، وكفايات تقنية، مثل التحكم في التكنولوجيات الرقمية الحديثة.
تربية ما بعد الكورونا تتطلب رسم هذين النوعين من الغايات.
أولا- الغايات القيمية:
لقد كشفت أزمة الكورونا الحالية عن أمر مهم جدا. وهو دور الثقافة الأصيلة والقيم في إحكام مواجهة الوباء وسرعة الاستجابة لمقتضيات هذه المواجهة، وهذان أمران يتلخصان في قيمة الانضباط. في الصين، التي تعدّ أبرز مثال على النجاح المتميز في مواجهة الوباء ودحره، وإن بعد تهاون وسوء تقدير في البداية، برز انضباط منقطع النظير لدى كل فئات الشعب الصيني الذي يبلغ مليارا ونصف من الأفراد. والانضباط، في ما وراء نظام رقابة السلطة المشدَّدة بمساعدة الخلايا الحزبية المحلية التي أنشئت منذ العهد الماوي، يشكل(الانضباط) قيمة مستمدة مباشرة من الثقافة الكونفوشوسية، التي استبطن الصينيون من خلالها قيم الطاعة والجدية والانضباط والدقة والتضحية من أجل صالح المجموعة. بينما فشلت الفضاءات التي ترعرعت فيها الحداثة وقيمها الفردانية والمادية والوضعانية في استجابة سريعة وجدية ومنضبطة لخطر الكورونا. كانت ألمانيا استثناء نسبيا في الفضاء الأوروبي الغربي.. وهذا عائد جزئيا للإيمان بقيمة الانضباط والدقة أيضا. وكذلك ربما لقيمة الرصانة المستبطنة من الكاثوليكية الوقورة المترسخة في المجتمع الألماني. لقد زرت ألمانيا منذ ثلاث سنوات، ولم أشاهد هناك أناسا يضحكون ببلاهة أبدا. وأعرف أن فيلسوف النقد والأنطروبولوجيا والتربية الألماني امانويل كانط كان قد أكد بوضوح في تأملاته التربوية على قيمة الانضباط، التي منحها أهمية تفوق أهمية اكتساب المعرفة ذاتها، لأنه حسب قوله من فاته نصيب من المعرفة، فإنه بإمكانه تداركه في أي وقت، ولكن من فاته اكتساب خلق الانضباط، فيصعب عليه لاحقا استبطانه حقا.
ونحن في مجتمعاتنا الإسلامية تتوفر ثقافتنا على كنز من القيم مساعد على التمتع بحياة طيبة في المجموعة. مثل قيم الأخوة، والجماعة، والتضامن، والكرم، والإيثار، والتطهر، والإيمان والصبر والاحتساب والتوكل والإخلاص والعلم والإتقان، وقيم الحذر والأخذ بالأحوط. وهنالك المقاصد الشرعية، ومن بينها حفظ النفس. وكلها قيم يحتاجها الأفراد والمجموعة في أوقات الضيق خاصة. كل هذه القيم يجب مواصلة التنشئة الاجتماعية والتربية المدرسية عليها، بالمثال والقدوة والممارسة والتمرين والتمرن خاصة. ومن السخافة والحمق التفريط فيها تحت عناوين الحداثة والتقدم والفرد (الفردانية في الحقيقة).
ولكن توجد في تراثنا أيضا عوائق ثقافية يجب التنبه لها ومعالجتها مثل عقيدة الجبر والتواكل وقلة الحذر، بدعوى أنه ” لا يغني حذر من قدر”. ولذا يجب اعتماد مقاربة التنوير الديني في التربية الإسلامية وحتى بشكل عابر للمواد، وبطريقة مناسبة. مثل استخراج بعض العوائق الثقافية وجعلها أهدافا- عوائق objectifs- obstacles ، في بعض الدروس العلمية، حتى لا ينشأ المتعلم وهو حامل لوَعْيَيْن متضاربين ومتعايشين بشكل سلبي في مرجعيته الذهنية الواحدة، فتكون الغلبة للوعي الديني الساذج عند أول اختبار، لتفوّق بنية الاعتقادات المتصلبة على البنية المنطقية الرياضية العلمية التي تبنى بناء ذاتيا، ولا تتلقى بصفة سلبية.
إلى جانب القيم الثقافية الأصيلة، توجد طائفة أخرى من القيم الضرورية لحسن التعامل مع آفات وجوائح تجتاح الكوكب بأسره. من أبرزها قيم الهوية الأرضية. بصفتنا ننتمي لنفس النوع الإنساني، ونواجه نفس المصير العالمي في خطوطه العريضة، وأحيانا حتى في أدق تفاصيله. هنا على الهويات الثقافية المخصوصة أن تتحلى بالانفتاح الإنساني والوظيفي الحيوي الذي لا مفر منه. فتكون القيم الإنسانية، مثل الرحمة والتراحم والتضامن والتعاون، في قلب منظومة القيم الثقافية الخاصة بكل أمة وبكل شعب، مهما كانت الديانة والثقافة والعرق.
كما يجب إدراج التربية على الصحة الوقائية في المناهج التربوية، وإدخال سلوكات الحذر الصحي في المدارس، مع الانتباه إلى عدم المبالغة حتى لا تنمو لدى بعض النفسيات الهشة حالات هَوَسِيَّة، وحتى لا يسمح بفقدان الأفراد لمناعتهم وقدرتهم الجسدية الذاتية على الدفاع ضد الكائنات المجهرية الضارة من جراثيم وفيروسات. وبالتوازي مع هذه التربية الوقائية للمتعلمين، يجب تأهيل كل المؤسسات التربوية بمعيار الصحة الوقائية، الذي هو مؤشر من مؤشرات الجودة التربوية الشاملة. وتدريب الأعوان على الالتزام بهذا المعيار دون أدنى تهاون.
ثانيا- الغايات\الكفايات:
أعود مرة أخرى لنفس المثال الصيني. لم تنجح الصين في تحدي مواجهة الوباء بالأخلاق الكونفوشوسية وحدها، ولا بالحرص الصارم على الانضباط وحده، بل نجحت في ذلك أيضا بالتقدم العلمي والتقني. وخاصة علوم المعلوماتية الصناعية والأوتوماتيزم والروبوتيك والسيبارنيتيقا، فضلا عن البيوكيمياء والعلوم الطبيعية والطبية والصيدلة.
لذا يجب أن نصمم مناهج لتربية ما بعد الكورونا تتضمن تعلمات عصرية بالكامل، وأن نتجاوز المقررات التي عفا عليها الزمن. هذا من حيث المضامين، أما من حيث الوسائل، فيجب الاستعداد تدريجيا للتخلي عن الشكل المدرسي التقليدي وتعويضه بشكل ملائم لعصر الديجيتال، حيث استخدام التكنولوجيات الرقمية والتعليم عن بعد بوسائل الاتصال الرقمي، دون التخلي عن الوساطة التيسيرية للمعلم والتفاعل المعرفي الاجتماعي الفوري أو المؤجل، لتجنب إعاقة ظهور سيرورات النأي بالذات المتعلمة عن الأنوية، وتنشيط سيرورات مابينية تؤدي بدورها إلى تنشيط سيرورات ضمن ذاتية مساعدة على التغلب على التمركز حول الذات، وبالتالي إمكانية الاستفادة من الأتراب الأكثر تمكنا من المهمات المعرفية.
يوجد جانب آخر في تحديات أزمة الكورونا يخص النظام الديمقراطي بدرجة أولى. وله انعكاس أيضا على الشكل المدرسي ودمقرطة العملية التربوية والتفاعلات التعليمية- التعلمية. وهو يخص نمط العلاقة بين السلطة أو الدولة والمجتمع المدني. فميزة الديمقراطية كونها في مثل هذه الحالات الوبائية كونها “تخاف على الشعب” ولا تُخوّف الشعب، كما يحدث في الأنظمة الشمولية الاستبدادية، وفي مثل هذه الأزمات تنعكس العلاقة لتكون علاقة تعاضد وتعاون وتشاركية، عوضا عن علاقة الضدية والمقاومة التي يبديها المجتمع المدني لخيارات وبرامج السلطة. الكلمة المفتاح هنا هي التشاركية والتعاون، بما يتطلب الانفتاح والتنسيق والتثمين المتبادل للمقترحات والإجراءات. في المؤسسة التربوية توجد أيضا سلطة وتوجد قوى مقاومة. السلطة تمثلها الإدارة، وقد تكون المقاومة من المعلمين. ولكن السلطة أيضا هي المعلمون أنفسهم إزاء المتعلمين، الذين يظهرون أحيانا مقاومة في تعلم الجديد أو في الانضباط للميثاق التربوي. أي مقاومة العقد الديداكتيكي (الخاص بالمعرفة) والعقد البيداغوجي (الخاص بالظروف التواصلية النفس- اجتماعية للوضعية التربوية). من شأن تطبيق بيداغوجيا مؤسسية، حيث توزع أدوار المسؤولية ديمقراطيا بين التلاميذ، بتأييد وتيسير من المعلم، أن تساعد على إحلال شكل مدرسي ديمقراطي تشاركي أفقيا (بين التلاميذ أنفسهم) وعموديا (مع السلطة: المعلم والإدارة) حيث يكون هنالك اعتراف ومأسسة للأدوار التي يتقلدها التلاميذ في “دولتهم” أو “مؤسستهم” ( الفصل، ومحيطه المدرسي المشترك مع فصول أخرى). بيداغوجيا المشروع تقحم أيضا بشكل عقلاني ومقبول وتعاقدي كلا من الإدارة والمعلم والتلاميذ والمحيط الاجتماعي والصناعي والاقتصادي والبلدي، والأمني أحيانا، في تشاركية متعددة الأطراف، وغنية بالتعلمات وب”التربيات على”. كل هذا إذا تكرر وتنوع وتم التداول بشكل مقبول على المسؤوليات فيه، يهيئ الأفراد لإدارة أزمات لاحقة وهم متسلحون بالذهنية والقيم والمهارات القيادية والتنظيمية واللوجستية المطلوبة. ولا يبق إلا تطبيق تمرينات بسيطة للتدرب على الحالات الجديدة والتكيف معها.
تعديل آخر يجب أن يجرى على الشكل المدرسي، ولكنه من طبيعة فنية هذه المرة، حتى وإن كانت له انعكاسات بيداغوجية إيجابية بالضرورة، وهو وجوب التخلي عن هندسة الحشر القطيعي للمتعلمين، والتخفيف من الاكتظاظ في الفصول، بحيث يكون هنالك كسب تربوي وكسب صحي في الآن نفسه.
في الحقيقة، لا يكون الاستعداد لما بعد الكورونا، أي لكورونا أخرى محتملة، في ذات صيغتها الحالية، أو في طور مستجد، أو لأي آفة ووباء المحتمل ظهورهما في المستقبل، لا يكون هذا الاستعداد بتدابير مادية وتربوية جديدة بالكامل. بل بتثمين الرصيد الذي ثبتت قيمته من القيم ومن الكفايات والمهارات والتقنيات، وبالتربية على الاستجابة السريعة والمحكمة لكل طارئ. أي تحرير الطاقات عوضا عن كبحها بهواجس أمنوية أو اقتصادوية أو قانونجية، وبعادات مؤسسية متكلسة.
أضرب مثالا على ذلك في تونس، هو منع الشباب من تصميم طائرات وآليات وابتكارات مختلفة تحت وطأة الهاجس الأمني، وبضغوطات مانعة من ممارسة السيادة الوطنية في مجال الحريات الأكاديمية والابتكار التكنولوجي والسبق العلمي.