أصول التقعيد الفقهي وخصائصه عند الإمام ابن عبد البر ( ت463هـ ) من خلال كتابه “الاستذكار”
مقدمة
بالرجوع إلى مختلف المصادر التي تعنى بالمصطلحات والألفاظ الفقهية، لا نجد للتقعيد مكانا يحدد معناه، بل نجد بعض العبارات المتناثرة للمتقدمين في المجال، غير أن أغلبهم يربط بين التقعيد والقواعد على منوال المعاني اللغوية للفظ، ومن ذلك ما جاء في فتح الباري: “… لكن لما كان كل حكم منها يشتمل على تقعيد قاعدة يستنبط العالم الفطن منها فوائد جمة[1]…”وهذا لا يمنحنا المعنى الذي نبحث عنه للتقعيد، لكن بالبحث عند المعاصرين المتأخرين ممن تطرق للموضوع نقف على معنى التقعيد في كتاب ” نظرية التقعيد الفقهي وأثرها في اختلاف الفقهاء” لمحمد الروكي الذي حاول أن يربط بين التقعيد والقاعدة مستفيدا من عبارات القدامى كما ذكرنا آنفا، فعرفه بقوله:” عملية إنشاء القاعدة وتركيبها وصياغة عناصرها.[2] ”
والقاعدة كما قال الجرجاني “قضية كلية منطبقة على جميع جزئياتها.[3] ” أما علم الفقه عندما استقر فقد عرّف بأنه: ” العلم بالأحكام الشرعية العلمية من أدلتها التفصيلية.[4] ” وبالعودة إلى ما بصدد دراسته في هذه الورقات وعلى ضوء معاني التقعيد والفقه المذكورة سابقا فيمكن ان نبين معنى التقعيد الفقهي باعتباره مركبا تركيبا وصفيا بأنه: ” علم يبحث في صناعة القاعدة الفقهية ويعنى ببيان مصدرها”، وهنا يقول محمد الروكي أن التقعيد الفقهي: “هو عمل علمي فقهي، ينتهي بالفقيه إلى صياغة الفقه قواعد وكليات، تضبط فروعه وجزئياته. فالقاعدة هي حكم كلي…، والتقعيد هو إيجادها واستنباطها من مصادرها.[5] ”
وبعد هذه التوطئة القاصدة إلى تحديد المصطلح، فإن ما سنتطرق إليه في هذا المقال عبارة عن فحص لما قدمه الإمام ابن عبد البر النمري الأندلسي ) ت463هـ ( في مجال التقعيد الفقهي، وكيف اهتم به اهتماما كبيرا في كتابه “الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار وعلماء الأقطار فيما تضمنه “الموطأ ” من معاني الرأي والآثار وشرح ذلك كله بالإيجاز والاختصار “.
أصول التقعيد الفقهي عند الإمام ابن عبد البر
اهتم الحافظ بجانب التقعيد الفقهي اهتماما شديدا، ويتبين ذلك من خلال دعوته إلى ضبط أصول الأبواب والحكم على من يخالف تلك الأصول والقواعد والضوابط بالبطلان، خاصة من يفعل ذلك من غير مستند صحيح وقوي، كما قال: (كل ما ترده أصول شريعتنا فباطل)[6]. وعن بيان قصده من تأليف بعض مصنفاته الجليلة قال عن شرحه “التمهيد”: (الغرض مما في كل باب من أبواب كتابنا هذا؛ أن يتسع القول في أصوله ونوضحها ونبسطها ونلوح[7] من فروعه، بما يدل على المراد فيه، إذ الفروع لا تحصى ولا تضبط إلا بضبط الأصول)[8]. وكلامه هذا دليل على اهتمامه بالتقعيد الفقهي كما أنه رحمه الله تعالى كان يرجع إلى ما احكم مما نصت عليه أصول الشريعة وقواعدها، وضوابطها، عندما يشكل عليه فهم النص، وفي ذلك يقول: (ومثل هذه الأحاديث المشكلة المعاني، البعيدة التأويل عن مخارج ألفاظها، واجب ردها إلى الأصول المجتمع عليها)[9]. وقال أيضا: (وهذه أصول قد بانت عللها، فقس عليها ما كان في معناها تصب إن شاء الله، وهذا كله باب واحد متقارب المعاني متداخل؛ فاضبط أصله)[10].
وبما أن التقعيد الفقهي عمل علمي معقد ومتشعب، يجمع فيه الفقيه شتات الفقه ومختلف مسائله المتناثرة في إطار يضبطه حكم واحد، فإن هذا العمل لا يأخذ حجيته وشرعيته، إلا إذا استمدها من أصول وأدلة شرعية تجعله قويا بما يكفي ليقول كلمته في مجال لا يقبل التناقض. هذا ما جعل الإمام ابن عبد البر لا يعتمد في فقهه على النقل المجرد من الدليل، بل إنه اعتمد على أصول وأدلة شرعية مختلفة في التقعيد الفقهي لديه، وبتتبعنا للأدلة التي ذكرها نستخلص بان أصول التقعيد الفقهي عنده تتمثل فيما يلي:
للاطلاع على بقية الدراسة، يمكنك تنزيلها عبر النقر هنا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] . فتح الباري شرح صحيح البخاري، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار المعرفة ـ بيروت 1379هـ، ج9، ص 405.
[2] . نظرية التقعيد الفقهي وأثرها في اختلاف الفقهاء، محمد الروكي، بيروت، دار ابن حزم، 2000م الطبعة الأولى ص 33.
[3] . كتاب التعريفات، علي بن الجرجاني (توفي سنة 816هـ/1413م)، تحقيق إبراهيم الأبياري، بيروت، دار الكتب العلمية، 1983م، الطبعة الأولى ص 195.
[4] . التوضيح في شرح التنقيح، محبوبي عبيد الله بن مسعود، الطبعة الأولى 1322هـ، المطبعة الخيرية، القاهرةـ مصر. ج1، ص 10.
[5] . التقعيد الفقهي، الروكي، ص 35.
[6]– الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الامصار وعلماء الأقطار فيما تضمنه الموطأ من معاني الرأي والآثار، أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر عاصم النمري القرطبي، تحقيق سالم محمد عطا، محمد علي معوض، الطبعة الأولى، 2000م، دار الكتب العلمية، بيروت ج 2 ص 42.
[7]– لحت إلى كذا ألوح أي نظرت، ولاح الرجل والاح غذا ظهر وبرز، والمراد هنا أظهرت من الفروع ما يبين الأصول على سبيل التمثيل لا الحصر لتعذره. انظر: لسان العرب، محمد بن مكرم بن علي أبو الفضل جمال الدين ابن منظور ، الطبعة الثالثة، 1414هـ، دار صادر، بيروت مادة: (لاح)(2/586).
[8]– التمهيد لما في الموطأ من المعاني والاسانيد، أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر عاصم النمري القرطبي، تحقيق مصطفى بن أحمد العلوي، محمد عبد الكبير البكري، 1387هـ ، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية . المغرب. 14/369.
[9]– التمهيد 22/32.
[10]– التمهيد لابن عبد البر 20/161.