المقالات

أزمة تدويل التعليم العالي

أصبح تدويل التعليم العالي أحد أبرز الاستراتيجيات في السياسات الوطنية و في أجندات الجامعات خلال العقود الثلاثة الماضية، لكونه يوفر العديد من الفوائد للدول والمؤسسات وأصحاب المصالح في التعليم العالي، كما أنه يقوم بوظيفة حيوية في تحسين جودة التعليم والبحث. و مع ذلك، من الصعب القول بأن جميع البلدان تستفيد بالتساوي من تدويل التعليم العالي، و هو الأمر المعروف في العولمية؛ أي أن عدم المساواة في التحكم بين دول العالم ينعكس على جهود الجامعات ونتائجها فيما يتعلق بالتدويل.
يُعنى تدويل التعليم العالي بالأنشطة الدولية للتعليم العالي؛ منها: تدويل البرامج و تحفيز حركية الطلاب و تنقل الأطر والأنشطة البحثية عبر الدول، كما يُعنى بتدويل المناهج الدراسية في المنزل، و عبر التبادل الافتراضي والتعلم الدولي التعاوني عبر الإنترنت.
في عام 2011، نشر أوي براندنبورغ و هانز دي فيت، مقالا بعنوان ” نهاية التدويل”، و فيه زعما أن تدويل التعليم العالي قد انتقل من هامش الاهتمام المؤسسي إلى جوهر الاهتمام، و لكن على الرُّغم من اكتسابه ثقلا أخلاقيا، بدا أن محتواه قد تدهور. و ها هما الآن، يعودان إلى تَكرار النتيجة نفسها في 2024، كأنهما لا يملكان سوى القول: إن تدويل التعليم العالي يعرف نهايته. لقد لاحظا تزايدَ التسويق التجاري تحت راية التدويل؛ فمن وجهة نظرهما، أدى هذا الوضع إلى تفاقم انخفاض قيمة التدويل و تضخم التدابير الدفاعية. و بمعنى آخر، لقد اُستُولي تدريجيا على سؤال: لماذا بهذا الطريقة التسويقية التجارية أصبح التدويل هو الهدف الرئيس، و وسيلة لطلب المزيد من التبادل، والمزيد من تنقل أصحاب الدرجات العلمية، والمزيد من التوظيف الدولي؟
لتوضح ذلك، يطالب الباحثان بفهم التدويل والعولمة بمعانيهما النقية، ليس من حيث إنها أهداف في حد ذاتها بل كوسيلة لتحقيق غاية أصلية؛ كما يطْلبان خلع حجاب الجهل لكي نتساءل: لماذا نفعل أشياء معينة بخصوص التدويل، و كيف نفعلها؟ و هذا السؤال يساعد في تحقيق هدف جودة التعليم والبحث في مجتمع المعرفة المعولم. و معنى ذلك، أنه يتعين النظر إلى البحث العملي التعاوني والتنقل، والأنشطة الأخرى التي تقوم على أساس تدويل التعليم العالي، على أنها ليست أهدافا في حد ذاتها، و هذا يشير إلى أن الأهم هو إعادة التفكير، وإعادة تحديد الطريقة التي ننظر بها إلى تدويل التعليم العالي في الوقت الحاضر.
إذا نظرنا إلى الوراء 12 عاما، فإن الصورة ليست إيجابية. فبالنسبة للمهتمين بقضايا تدويل التعليم العالي عالميا، فإن التدويل هو عملية نسخت للتو من مؤسسات الشمال (جامعات و سياسات حكومية)، و ليس لها أي معنى حقيقي بالنسبة لواقع دول الجنوب و لسياقاتها الاقتصادية والاجتماعية، بل لا يتردد صدى هذا النسخ في أولوياتها المؤسسية؛ بتعبير آخر، لا يزال التعليم في الخارج بجميع أشكاله يقود الأجندة العالمية أكثر من التدويل في الداخل. يتجلى ذلك في: النهج النخبوي في التعامل مع التدويل؛ بطء جميع جوانب التعليم بطريقة متكاملة في السياسات واستراتيجيات الجامعات في دول الجنوب؛ الالتفاف حول حركة إنهاء الاستعمار؛ الاقتصار على بعض النوايا الحسنة والممارسات المعزولة؛ التسويق النيوليبرالي عبر التدويل… علاوة على وجود تجل آخر، يتم من خلاله قيادة التدويل في اتجاه خدمة دول الشمال، هذا ما نلاحظه بالتركيز المتزايد على التصنيفات الدولية التي تمثل القاعدة في ترتيب الجامعات، وتفضيل البعض على البعض الآخر؛ فالانقسام بين الشمال والجنوب يلقي بظلاله على الجامعات المصنفة، حيث يظهر أن هناك جامعات عالمية رفيعة المستوى و أخرى ليست كذلك.
في حقيقة الأمر، أصبحت القدرة على تدويل التعليم العالي اليوم مرادفا للمنافسة والقدرة على التسويق، أكثر من ارتباطها بالقيم الإنسانية و بقيم التعليم التقليدية (التعاون والتبادل و خدمة المجتمع). حتى أنه تزايدت فجوة التفاوتات على الصعيدين الوطني والدولي، و يرجع ذلك جزئيا إلى النهج النخبوي في التعامل مع التدويل.
إذا لم نتحرك، فإن نهاية التدويل أصبحت أقرب من أي وقت مضى، حيث بات يبتعد شيئا فشيئا عن قيمه الأصلية، لا سيما في الشمال العالمي، فبعد الوباء، تبدو العودة إلى الوضع الطبيعي القديم للتسويق في التدويل سائدة، بينما في الجنوب العالمي هناك وعي أكبر بالعواقب السلبية من وراء هذا النمط من التدويل.
إن الاعتراف بأهمية معالجة جميع جوانب التعليم بطريقة متكاملة و متداخلة في السياسات و في استراتيجيات الجامعات لا مناص منه لكي تُرفع وتيرة التحولات الإيجابية في هذا الشأن.
فمع ضعف المجتمع بنيويا، و ظهور أشكال جديدة للاستعمار، والتغيرات المناخية، يلزم التحرك نحو تدويل أكثر مسؤولا من الناحية الاجتماعية والسياسية، على المستويات المؤسسية والوطنية والعالمية، بعيدا عن الخطابة، كما يلزم نقد التسويق النيوليبرالي، والاستعداد لمواجهه الأوبئة الجديدة، والوقوف في وجه: الحركات القومية المناهضة للعالمية، والهجمات على الديمقراطية، و مناهضة العنصرية والعنف الرقمي، و عمل من أجل تخفيف التوترات الجيوسياسية، والدفاع عن المساواة… و هذا كله، لكي لا يقترب تدويل التعليم العالي بالفعل من نهايته. و من هنا، تبرز أهمية المطالبة بالتدويل الذي يركز على عمل قادة الجامعات والطلاب والأساتذة الدوليين والعلماء لجعله مسؤولا اجتماعيا، يحترم التنوع بجميع أشكاله.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى