الدراسات

كيف ننشئ فلسفة إسلامية أصيلة؟

ليس غرضنا من الكلام في “فلسفة إسلامية أصيلة” أن نعود إلى الخوض فيما يسمَّى بـ”مشكلة الفلسفة الإسلامية” التي شغلت الدارسين، غربا وشرقا، منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والتي دارت على السؤال العريض: “هل هناك فلسفة إسلامية؟”، وإنما غرضنا أن ندُلَّ، بعد طول اشتغالنا بآليات التفلسف، على بعض المعالم الأساسية التي يمكن أن يهتدي بها الفيلسوف المسلم المعاصر في وضع فلسفة موصولة بمجال التداول الإسلامي، بحيث يجعل هذا الوصلُ  المتلقيَّ المسلم يأنس بهذه الفلسفة ولا يستوحش منها، فيُقبل على النظر فيها والتفاعل مع مسائلها، إن أخذا أو نقدا؛ فلنبسُط هذه المعالم الأساسية في صورة “أصول عامة”؛ وهذه الأصول تُعدّ مما نسميه “فِقه الفلسفة”[1]، لا من “الفلسفة”، نظرا لأنها عبارة عن أحكام على الفلسفة ذاتها، لا دعاوى مأخوذة منها؛ ونحصي من هذه الأصول العامة ثمانية:

الأصل الأول: لا ينبغي للفيلسوف المسلم أن يجعل من إشكال غيره الفلسفي على صورته الأصلية إشكاله الخاص، وإنما عليه أن ينشئ من عنده إشكاله الفلسفي، وإلا فلا أقل من أن يُعيد صوغ ما تلقاه من غيره بحسب مقتضيات مجال التداول الإسلامي؛ وبقدر ما يكون هذا الإشكال، مضمونا أو صورة، أكثرَ اتصالا بواقعه وحياة أمته، يكون أدل على أصالته؛ وبيان ذلك كما يلي:

لا يخفى أن الإشكال الفلسفي الأساسي الذي يطرحه، على الفيلسوف المسلم المعاصر، زمانُه، يتحدد بعنصرين: أحدهما، “وضع الإنسان في العالم”؛ والثاني، “التصوُّر الفلسفي السائد في العالم”.

أ. وضع الإنسان في العالم؛ إذا صح أن الفيلسوف ابن ساعته، فلا ساعة أحوج إلى أن تشغَل الفيلسوف من الساعة التي يمر بها العالم اليوم؛ إذ يشهد عالـمُنا من صور انتهاك القيم وخيانة الأمانات ونقض المواثيق ما تسفَّل به الإنسان أيما تسفُّل؛ وليست حاجةُ هذه الساعة إلى الفيلسوف المسلم أقل من حاجتها إلى الفيلسوف غير المسلم، بل قد تكون أحوج إليه منها إلى غيره، إذ الأصل في مجيء الإسلام ليس فقط قطعُ أسباب التسفّل عن الإنسان، بل بلوغ الغاية في تكريمه[2].

ب. التصوُّر الفلسفي السائد في العالم؛ هذا التصور على نوعين: “التصور العلمي للفلسفة” و”التصور المعرفي للفلسفة“.

لئن كانت الفلسفة هي، كما اشتهر، حب الحكمة، فإن “الحكمة” اتخذت، في طويل مسارها الفلسفي، صورتين أساسيتين:

إحداهما أن المراد بـ”الحكمة” هو “الحقيقة”، بحيث عُرِّفت الفلسفة بكونها “طلب الحقيقة” كما في قولنا: “حقيقة الكون” أو “حقيقة الإنسان”؛ غير أن مفهوم “الحقيقة” لم يستقر على وجه واحد، وإنما تقلّب في أطوار، كل طور أكثر تضييقا لمعنى “الحقيقة” من الطور الذي سبقه، حتى باتت “الحقيقة” لا تدل اليوم إلا على “الحقيقة” المستمدة من “الواقع”، وباتت الفلسفة تابعة لـ”العلم” بالمعنى الضيّق، أي “تحصيل القوانين الموضوعية”، بحيث أضحت لا تضع من الأسئلة إلا ما يضعه “العلم”، مكتفية بتحليل مفاهيمه وتوضيح مناهجه وبسط نظرياته، ونسمي هذه الصورة الأولى للفلسفة بـ”الصورة العلمية للفلسفة“؛ إذ لا علم، بحسبها، إلا بالبحث في الموضوع، بحيث يكون “العلم الموضوعي” هو المرجع والمبتغى في كل علم، ويمكن أن نسميها، اختصارا، “الفلسفة العالمة“، ومبادئها الأساسية ثلاثة هي “مبدأ النظر“، و”مبدأ العمل“، و”مبدأ التأله“.

والصورة الثانية أن المراد بـ”الحكمة” هو “المعنى“، بحيث عُرِّفت الفلسفة أيضا بكونها “طلب المعنى” كما في قولنا: “معنى الوجود” أو “معنى الحياة”؛ ومعلوم أن “سؤال المعنى” هو “سؤال القيمة”؛ غير أن مفهوم “القيمة” تقلَّب، هو الآخر، في أطوار، كل طور أكثر تضييقا لمعنى “القيمة” من الطور الذي سبقه، حتى باتت “القيمة” لا تدل اليوم إلا على “القيمة المستمدة من “الذات”، وباتت الفلسفة تابعة لـ”معرفة الذات” بالمعنى الضيق، أي “تحصيل المصالح الذاتية”، ونسمّي هذه الصورة الثانية للفلسفة بـ”الصورة المعرفية للفلسفة“، إذ لا معرفة، بحسبها، إلا بالبحث في الذات، بحيث تكون “معرفة الذات” هي المرجع والمبتغى في كل معرفة؛ ويمكن أن نسميها “الفلسفة العارفة، ومبادئها الأساسية، هي الأخرى، ثلاث: “مبدأ التفكر” و”مبدأ التخلق” و”مبدأ التشبه“.

من هنا، يتبين أن الفيلسوف المسلم يحتاج إلى أن يستشكل، بناء على منظور أمته، واقعَ الإنسان المعاصر في ضوء التعارض بين تصوّرين للفلسفة تأخذ بهما الممارسة الفكرية في العالم؛ لهذا، يتخذ إشكاله الفلسفي الخاص صورة السؤال التالي: “كيف يمكن إعادة الاتساق للفلسفة، بحيث ينهض الفيلسوف بمسؤوليته في بيان الطريق التي تُخرج الإنسان المعاصر من تسفُّله؟”.

الأصل الثاني، أن الفيلسوف المسلم يقرّر أن “تسفُّل الإنسان” في هذا العصر ناتج عن آفتين هما: آفة “تسييب العلم” وآفة “تـجريد المعرفة “؛ وهذا التقرير هو بمثابة الدعوى الأساسية الأولى التي يدعيها هذا الفيلسوف للجواب عن السؤال المطروح؛ فيستدل عليها كالتالي:

أ. آفة “تسيُّب العلم“؛ لما استقل “العلم” عن “الفلسفة”، وأصبح يستتبعها استباع المخدوم للخادم، لم يَعُد يخضع لأي معايير لا يضعها منطقُه، هذا المنطق الذي غدا مبنيا على تحقيق أقصى ما يمكن من “الحسابية” و”الإنتاجية” و”المردودية” و”الفعالية”، بحيث أضحى كل شيء، بالنسبة إليه، ممكنا، وأضحى كل ممكن متحققا.

والحال أن مجال التداول الإسلامي، وإن رفَع قدْر العلم ودعا إلى طلبه، فـإنه قيَّده بـ”الحُكم” كما في الآية: “وكلا آتينا حكما وعلما”[3]؛ والمراد بـ”الحكم” إنما هو “الحكمة”، وانفصالُ العلم عنها يؤدي حتما إلى تسيُّبه؛ و”تسيّب العلم” إنما هو شرّ مِثل انقباضه، إذ “انقباض العلم” هو فقدان خيراته، و”تسيّب” العلم هو وجدان شروره؛ و”فقدان الخير” و”وجدان الشر”، في حال العلم، أثرهما واحد.

ب. آفة “تجرُّد المعرفة“؛ لما تجرَّدت “معرفة الذات” من اعتبار “المطلقات”، وأصبحت القيم تابعة لأهواء الذات، لم تعُد هذه المعرفة تقبل بأي معايير لا تتفق مع منطق “الاستمتاع” الذي بات يحكم أفعال الذات.

والحال أن مجال التداول الإسلامي، وإن رَفع قدْر معرفة الذات ودعا إلى طلبها، فإنه أقامها على مبدإ التحقق بالقيم السامية؛ وتجرُّد معرفة الذات من القيم السامية إنما هو شرٌّ مثل خلوّ هذه المعرفة من القيم؛ إذ خُلوّ معرفة الذات من القيم هو فقدان القيم أصلا، وتجرّدُها من القيم السامية هو وجدان القيم السافلة؛ و”فقدان القيمة” و”وجدان القيمة السافلة”، في حالة المعرفة، أثرهما، هما أيضا، واحد.

الأصل الثالث، أن الفيلسوف المسلم ينبغي أن يشتغل بالتفكر في كيفيات دفع الآفتين: “آفة تسييب العلم الموضوعي” وآفة “تجريد معرفة الذات” بِـما يجعل هذه الكيفيات تتعدى فوائدُها خصوصَ المسلم وتنطبق على عموم الإنسان، كائنا ما كان.

ويرجع اشتغال الفيلسوف المسلم بالتفكر في هذه الكيفيات المنفتحة على خارج مجاله التداولي إلى الأسباب الآتية:

أحدها، أن الذي حمله على هذا التفكر هو ما صار إليه “العلم الموضوعي” من “تسيّب تقني”، وما صارت إليه “معرفة الذات” من “تجرّد قيمي”؛ و”التسيب التقني” و”التجرد القيمي” آفتان عمَّت آثارهما السلبية العالم بأسره.

والسبب الثاني، أن التفكر الفلسفي يوجب، من حيث هو فلسفي، أن يجتهد الفيلسوف في الارتقاء بدعاويه، على خصوصية اتصالها بمجاله التداولي، إلى أفق “الكونية”.

والسبب الثالث، أن الفيلسوف المسلم يعلم أن التفكر الأول الذي أتاه الإنسان كان تفكرا كونيا، إذ أن السؤال الإلهي عن الربوبية، في ميثاق “ألست بربكم”، توجه إلى بني آدم كلهم لا يشذ منهم أحد، فتفكر كل واحد منهم في الجواب، وهو لـمّا يخرج بعدُ إلى ظاهر الوجود؛ هذا، بالإضافة إلى كون الخطاب القرآني يتوجه إلى الإنسان بعمومه، وأن الدعوة الإسلامية تتوجه إلى العالم بأسره.

يلزم من هذه الأسباب أن “أصالة” التفكر الفلسفي لا تعنى مطلقا الانكفاء على الذات، ولا الانغلاق في التراث، وإنما تعني الانفتاح الواعي على الإنسانية في مشتركاتها وجوامعها؛ فالأصل أن الفيلسوف يتميز بدوام البحث، في مبادئ مجاله التداولي الخاص، عن إمكانات ومكنونات “الكونية”، حتى يتوسّل بها في الارتقاء بخصوصيته؛ إذ الكونية، في نهاية المطاف، إنما هي هذا الارتقاء بالخصوصية التداولية، حتى تنفتح فيها أسباب الاشتراك مع غيرها من الخصوصيات التي يضمُّها العالم.

الأصل الرابع، أن الفيلسوف المسلم يتوصّل إلى أن “العلم الموضوعي” يحتاج إلى “التهذيب”، وأن “معرفة الذات” تحتاج إلى “التسديد”؛ فيقرر أن “تهذيب العلم” و”تسديد المعرفة” يوجبان تغيير نمط العلاقات الذي ظل يضبط تعامل الإنسان مع العالم، سواء منها “علاقات الإدراك” أو “علاقات الاستعمال”[4]؛ وهذا التقرير هو بمثابة الدعوى الأساسية الثانية التي يدعيها هذا الفيلسوف للجواب عن السؤال المطروح، فيستدل عليها كالآتي:

أما عن علاقات الإدراك، فقد كان الإنسان ولا يزال يدرك الأشياء على مقتضى “الاقتناص“؛ فالـمُدرِك للشيء يَعُدُّ نفسه مقتنِصا للشيء الـمُدرَك؛ و”الاقتناص” غاية في الشعور بـ”الامتلاك العقلي”.

وأما عن علاقات الاستعمال، فقد كان الإنسان ولا يزال يستعمل الأشياء بما فيها نفسه على مقتضى “الانتفاع“[5]؛ و”الانتفاع” غاية في الشعور بـ”الامتلاك العملي”.

وإذا كان الأمر كذلك، فقد لزم أن يكون “الشعور بامتلاك المدرَكات” هو الأصل في “التسيب التقني” للعلم الموضوعي، وأن يكون “الشعور بامتلاك المستعمَلات” – أو قل “المعمولات” – هو الأصل في “التجرد القيمي” لمعرفة الذات؛ لذلك، يتعاطى الفيلسوف المسلم التفكر بقوة في نَـمَط مغاير لعلاقات الإدراك والاستعمال، أي نَـمطٍ لا ينبني على الشعور بامتلاك المعقولات، اقتناصا، أو امتلاك المعمولات، انتفاعا، بل يكون مبنيا على شعور يضادُّه، لاسيما وأن المعنى المضاد لـ”الامتلاك” متجذر في مجاله التداولي، وذلك بموجب ميثاق ملكوتي أقر فيه الإنسان بـ”المالكية” لله وحده؛ وهذا المعنى المضاد هو، بالذات، “الائتمان“.

فالتحقق بـ”الائتمان” يجعل المدرِك للشيء يشعر بأنه يحتضن ما يدركه بدل الشعور بأنه مقتنص له، كما يجعل المستعمِل للشيء يشعر بأنه ينصلح بما يستعمل بدل الشعور بأنه منتفع به؛ فـ”الاحتضان” و”الانصلاح” علاقتان ائتمانيان صريحان؛ إذ الاحتضان استقبال فيه إكرام، فلا مِلك معه، والانصلاح تقبُّل فيه إصلاح، فلا مِلك معه[6].

وبهذا، فإن تحصيل الشعور بالائتمان على المدرَكات والمعمولات يؤدي إلى تحقيق المطلبين:

أولهما، إخراج العلم الموضوعي من التسييب إلى التهذيب؛ إذ أن أهل “العلم الموضوعي”، بفضل تحصيلهم هذا الشعور الائتماني، يتعاطون اتقاء أضرار “التسيب التقني”؛ وهذا الاتقاء عبارة عن “تهذيب العلم الموضوعي”؛ فـ”العلم الموضوعي المهذَّب” هو العلم الذي يخلو من “الاستباحة التقنية“.

والثاني، إخراج معرفة الذات من التجريد إلى التسديد؛ إذ أن أهل “معرفة الذات”، بفضل تحصيلهم هذا الشعور الائتماني، يتعاطون اتقاء أضرار “التجرد القيمي”؛ وهذا الاتقاء عبارة عن “تسديد معرفة الذات”؛ فـ”معرفة الذات المسدَّدة” هي المعرفة التي تأخذ بـ”الاستقامة العملية“.

الأصل الخامس، أن الفيلسوف المسلم يستدل على دعوى فرعية أولى هي أن الصورة العلمية للفلسفة” تُـخرج الفلسفة عن أصلها، بحيث لا تفيد في تهذيب العلم.

ومن أدلته على ذلك ما يأتي:

أ. أن الأصل هو أن الفلسفة تُـحَدّ بـ”الحكمة”؛ وردُّ “الحكمة” إلى “العلم” خروج عن هذا الأصل، لأن “الحكمة” فكر يتسع لِـمَا لا يتسع له “العلم”؛ إذ لا تنفك عن اعتبار “الإنسان” و”الذات” بما لا يعتبرهما “العلم”، فقد ينسى “العلم” “الإنسان”، مستبدلا به “الآلة”، بل يذهب إلى أبعد من ذلك، فيسقط “الذات”، باعتبارها عنصر تشويش على الحقيقة أو عامل حجب لها.

ب. أن “الحكمة” تأخذ بالقيم والمعاني، وتجعل الوقائع تابعة لها، بينما “العلم” لا يأخذ إلا بالوقائع، ولا ينفك يفصل عنها القيم والمعاني، حتى في حال الوقائع الخاصة بالإنسان والذات.

ج. أن “الحكمة” لا تنفك عن العمل، و”العلم” ينفك عنه، وذلك بمعنيين: أحدهما، أن “الحكمة” توجب أن يصدِّق عملُ الفيلسوف فكره، أي أن يحيا فكره؛ بينما “العلم” لا يوجب ذلك، فقد يكون العالم في واد وعلمه في واد آخر؛ والثاني، أن العمل يلازم “الحكمة” ملازمة الماهية، بحيث يُتفكَّر في الحكمة بطريق العمل، في حين أن “العلم” لا يلازمه العمل هذه الملازمة، حتى ولو تعلق بموضوع عملي، لأنه يفكِّر فيه بتجريده؛ أما ما اشتهر، منذ “أرسطوطاليس”، باسم “الحكمة النظرية”، فإما أنه توسيع لمفهوم “الحكمة” أو تحريف له انتهى بترسيخ الصورة العلمية للفلسفة.

د. أن ما يندرج في “الحكمة” من “العلم” ينزل منها منزلة الوسيلة من المقصد، بحيث يتوقف اعتباره على اعتبارها وسداده على تسديدها؛ وإذا تقرر أنه لا حكمة بغير علم، فذلك لأن العلم الداخل فيها يكون قد انسلخ عن صورته الأصلية التي له خارجها، وأضحى علما معتبرا أو مسدَّدا، أي يأخذ بقيم الإنسان ومقاصد الذات.

الأصل السادس أن الفيلسوف المسلم يستدل على دعوى فرعية ثانية هي أن “مبدأ التفكر” من مبادئ “الصورة المعرفية للفلسفة” يستلزم التفريق بين “العقل الفلسفي” و”العقل العلمي؛ ويأتي هذا الاستدلال على الوجه الآتي:

معلوم أن “العقل” – أو “ملكة الفكر” – يُعتبر الخاصية المميزة للمنهج الفلسفي؛ والفيلسوف المسلم يرى أن “الحكمة” تنزل رتبة أعلى من رتبة “العلم”، إذ تسعه ولا يسعها؛ وإذا كان الأمر كذلك، فقد لزم أن يكون العقل الذي تتوسل به الحكمة غير العقل الذي يتوسل به العلم، بحيث يكون عقلا أوسع من عقل العلم؛ والشاهد على هذه السعة هو أنه يضع في الاعتبار قيم الإنسان والذات دون العلم؛ وعلى هذا، فإن العلاقتين: “العلاقة الإدراكية” و”العلاقة الاستدلالية” تكونان مختلفتين في العقلين: “العقل العلمي” و”العقل الفلسفي”.

أما اختلافهما في العلاقة الإدراكية، فيتمثل في كون هذه العلاقة في العقل العلمي “علاقة اقتناص”، إذ يقتنص هذا العقل من الوقائع الجزئية كليات عقلية، متصرّفا فيها تصرّف المالك لها، لأنها من اختراعه، إذ لا وجود لهذه الكليات في الواقع إلى جانب الجزئيات؛ أما هذه العلاقة، فتكون في العقل الفلسفي “علاقة احتضان”، إذ لا يَعقِل من الأشياء إلا ما تداخل بالقيم والمعاني، فيتلقى هذه القيم والمعاني منها تلقي ما أصله الكمالات المطلقة، فلا يسعه إلا أن يُـجلَّها ويُعجب بها، وهذا الإجلال والإعجاب هما مظهر الاحتضان؛ وهكذا، فإذا كانت العلاقة الإدراكية في العقل العلمي، بحكم الاقتناص، علاقة امتلاكية، فإن العلاقة الإدراكية في العقل الفلسفي، بحكم الاحتضان، علاقة ائتمانية.

وأما الاستدلال العقلي الذي يأخذ به الفيلسوف، فيصدق عليه من الائتمان ما يصدق على العلاقة الإدراكية، لأن الاستدلال إنما هو جملة مرتَّبة من علاقات الاحتضان الآيل إلى الائتمان، على خلاف الاستدلال العقلي الذي ينتهجه العالم، فهو لا يعدو كونه جملة مرتَّبة من علاقات الاقتناص الآيل إلى الامتلاك؛ وليس هذا فحسب، بل إن الاستدلال الفلسفي يستوعب الاستدلال العلمي، صارفا عنه، بحكم قدرته على التوسل بالقيم، صبغته الامتلاكية، ومُنزِلا إياه رتبة غير التي كان ينزلها في أصله.

لذلك، وجب التفريق بين رتبتين في العقل، أدناهما رتبة مجردة من القيم أو من الكمالات المطلقة التي تتأسس عليها، وهي رتبة “العقل العلمي”، فهذا العقل الأدنى عقل مجرَّد؛ وأعلاهما رتبة مسدَّدة بالقيم التي تتأسس على هذه الكمالات المطلقة، وهي رتبة “العقل الفلسفي”، فهذا العقل الأعلى عقل مسدَّد.

الأصل السابع، أن الفيلسوف المسلم يستدل على دعوى فرعية ثالثة هي أن “مبدأ التخلق” من مبادئ “الصورة المعرفية للفلسفة” يستلزم تأسيس الأخلاق على الفطرة وتعميمها؛ ويجيء هذا الاستدلال على الوجه التالي:

معلوم أن “التخلق” يُعدّ العلامة الأولى على تحقُّق الفيلسوف بفكره؛ والفيلسوف المسلم يرى أن “التخلق” يتضمن شرطين: أحدهما، تفطير القيم الأخلاقية، أو قل ردّ القيم الأخلاقية إلى الفطرة؛ والثاني، تعميم الصبغة الأخلاقية، أي جعل الحكم الأخلاقي يجري على كل أفعال الإنسان.

أ. شرط تفطير القيم الأخلاقية؛ يرجع الفيلسوف المسلم في هذا الشرط إلى “مبدإ الفطرة” الذي هو أحد مبادئ مجاله التداولي، مفرِّقا بين “الفطرة” و”الغريزة”؛ إذ “الغريزة” تتضمن “مقوّمات البدن”، و”مقوّمات البدن” هي الحاجات والميولات؛ بينما “الفطرة” تتضمن “مقوّمات الروح”، و”مقوِّمات الروح” هي، بالذات، القيم والمعاني؛ ثم إن الفيلسوف المسلم يجعل لـ”الفطرة” سببا في الصفات الإلهية من وجهين:

أحدهما، أنه لما كانت كل قيمة عبارة عن كمال، فلا بد أن يكون أصلها الكمال المطلق، ولا كمال مطلق إلا الصفة الإلهية، فكمال القيمة إذن من كمال الصفة؛ والتحقق بكمال القيمة لا يكون بامتلاكها، وإنما يكون بالخروج من هذا الامتلاك، لأن من شأن الـمِلك أن ينقلب على المالك، فيصير مملوكا لِـما ملك.

والوجه الثاني، أن الكمال الأخلاقي ليس كمال البدن، وإنما هو كمال الروح، فيلزم أن تكون الفطرة أمرا روحيا صريحا؛ ونسبةُ القيم الفطرية إلى الصفات الإلهية لا يمكن أن تكون إلا نسبة إلى كمالات نورانية مطلقة؛ فإذن روحانية الفطرة من نورانية الصفات الإلهية؛ ومَثل “الأمر الروحي” مع لغة الـمِلك كمثل “المعنى العقلي” مع لغة الحس؛ فكما أن “المعنى العقلي” لا يقبل أن يوصف بأوصاف الشيء الحسي كالقيام والجلوس والاتكاء والاستلقاء، فكذلك “الأمر الروحي” لا يقبل بأن يوصف بأوصاف الشيء المملوك، كالاستئثار والتمتع والهبة والإتلاف؛ وهذا يعني أن “الأمر الروحي”، إن لم يكن قد ائتُمن الإنسان عليه، فليس له من سبيل إليه.

ب. شرط تعميم الصبغة الأخلاقية؛ يرجع الفيلسوف المسلم في هذا الشرط الثاني للتخلق إلى “مبدإ الأمانة” الذي هو أحد مبادئ مجاله التداولي؛ إذ أن الأمانة هي أساس وجود المسؤولية، والمسؤوليةُ هي أساس وجود الأخلاق؛ فلولا أن الإنسان اختار أن يحمل الأمانة، ما كان ليُسأل عن شيء؛ ولولا أنه كان مسؤولا، ما كان ليميز الخير من الشر؛ فلـمَّا بات مؤتَـمنا ائتمانا كليا، أي ائتمانا شاملا على كل شيء في العالم، لزم أن تكون مسؤوليته كلية، وأن تكون، بالتالي، أخلاقيته، هي الأخرى، كلية؛ إذ أن ما يُسأل عنه إنما هو أفعاله وتروكه في كل ما ائتُمِن عليه؛ والحال أن هذه الأفعال والتروك تحيط بكل أحواله، ظاهرِها وباطنها، فيلزم أن الحكم الأخلاقي يجري على كل أفعاله وتروكه، بموجب مسؤوليته عنها.

ثم لما كانت هذه المسؤولية الكلية متفرعة على مبدإ الأمانة، لزم أن تكون الأخلاق بكليتها ذات صبغة ائتمانية، لأن الأخلاق نتاج تحمُّل المسؤولية، وأن تحمُّلَ المسؤولية نتاج حمل الأمانة؛ والأخلاق الائتمانية إنما هي الأخلاق التي تُبنى، أساسا، على نسبة القيم إلى الكمالات الإلهية.

الأصل الثامن أن الفيلسوف المسلم يستدل على دعوى فرعية رابعة هي أن “مبدأ التشبه” من مبادئ “الصورة المعرفية للفلسفة” يستلزم استبدال “مبدإ الاقتداء بالنبي” مكان “مبدإ التشبه بالإله؛ وهذا الاستدلال يتخذ الوجه التالية:

من مسلّمات “الصورة المعرفية للفلسفية” أن الفيلسوف لا يَكتفي، في معرفة الذات، باتباع المنهج العقلي والمسلك الخُلقي، لكي يحصّل الحياة الطيبة، بل يحتاج إلى طلب نموذج أعلى يتحقق فيه “كمال العقل” و”كمال الخُلق”، نموذج يُتشبَّه به في “التعقل” و”التخلق”؛ وقد اعتُبر “الإله” هو النموذج الأعلى الذي يمكن أن يُتشبَّه به، لأنه لا أكمل منه ولا أسعد، بحيث أضحى “التشبه بالإله” مبدأ من مبادئ التفلسف المعرفي؛ واضح أن الفيلسوف المسلم لا يمكن أن يقبل بهذا المبدإ لأسباب ثلاثة:

أحدها، أن “التشبه” علاقة تستلزم الاتصال المباشر، إن رؤية أو إشارة؛ وتعالى “الإله” أن يظهر للعيان أو يشار إليه بالبنان.

والثاني، أن المفهوم الذي ترسَّخ استعماله في مجاله والذي يفيد معنى “التقرب” من النموذج، مع الخلو عن شبهة منافسته التي قد تدخل على مفهوم “التشبه”، هو، بالذات، “الاقتداء” أو “الائتساء“.

والثالث، أن “القدوة الكامل” أو “الأسوة الكامل” الذي يتعين الاقتداء به هو “الإنسان الكامل”، ولا إنسان أكمل من خاتم النبيين ﷺ؛ لذلك، يطّرح الفيلسوف المسلم مقولة “التشبه بالإله”، ويستبدل بها مقولة “الاقتداء بالنبي”.

يترتب على هذه الأسباب أن الفيلسوف المسلم يسعى، في معرفة ذاته، إلى الاقتداء بخاتم النبيين ﷺ، تحصيلا للحياة الطيبة؛ وهذا الاقتداء على نوعين: “الاقتداء به في المنهج العقلي” و”الاقتداء به في المسلك الخُلُقي”.

أ. الاقتداء، في المنهج العقلي، بـالنبي الخاتم؛ لم يكن النبي الخاتم يتكلم في طرق التفكر على منوال أهل الفلسفة المعرفية، وإنما كان يسلك، عمليا، أكمل هذه الطرق ويحصِّل أفضل ثمارها؛ فقد كان يختلي للتفكر في فترات مختلفة ولأيام متواصلة، حتى أتاه الوحي؛ وفي هذا التفكر الطويل، تحقق ﷺ بأن أسمى ما يوصّل إليه “العقل” هو “الصدق“، فاتخذه خُلقا، حتى دُعي بـ”الصادق”؛ وحيث إن الصدق هو الإقرار بالحقيقة، وإن الغاية من المنهج العقلي هي، بالذات، الوصول إلى الحقيقة والإقرار بها، فلا يسع الفيلسوف المسلم إلا أن يعتبر “الصدق” هو أسمى القيم العقلية؛ ثم إن “الصدق” أفضى بالنبي الخاتم إلى أسمى الحقائق، وهي “توحيد الربوبية“؛ وحينها، لا يسع هذا الفيلسوف إلا أن يعتبر “الصدق” قيمة عقلية موصولة بالأفق الإلهي، بحيث لا حقيقة إلا ولها صلة خاصة بهذا الأفق ينبغي الوقوف عليها.

 لذلك، يجد الفيلسوف المسلم الحاجة إلى ضبط المنهج العقلي الذي يوصّل إلى معرفة الذات؛ إذ الحقائق التي يوصّل إليها ينبغي أن تكون متصلة بالأفق الإلهي؛ وهذا الاتصال يوجب عليه تجاوز المنهج العقلي الذي يأخذ بالحقائق وينسى أفقها الإلهي أو قل يجرّدها من هذا الأفق، – أي المنهج العقلي المجرد – وطلبَ منهج عقلي يحفظ الاتصال بالأفق الإلهي، لأن في هذا الاتصال تسديدا للعقل، أي أن هذا الاتصال يوجب عليه طلب منهج عقلي مسدَّد.

لذلك، فإن إدراك الفيلسوف المسلم لضرورة التسديد الإلهي يجعله يقتدي، في معرفة ذاته، بمنهج التفكر النبوي، صدقا وتوحيدا.

ب. الاقتداء، في المسلك الخُلقي، بالنبي الخاتم؛ إذا كان “صدق” النبي الخاتم ﷺ دليلا على تحصيله لـ”كمال التفكر“، فإن أمانته دليل على تحصيله لـ”كمال التخلُّق؛ فإذا كان قومه ينادونه، ولـمّا يُبعث، بـ”الصادق“، فقد كانوا ينادونه أيضا، كما هو معروف، بـ”الأمين“، حتى صار هذا الاسم لقبا له؛ ولم يكن يحملهم على هذا النداء إلا إدراكهم بأنه ﷺ فُطر على “الصدق والأمانة”، حتى لا أحد يضاهيه فيهما؛ وكما أن “الصدق” وصّله إلى “توحيد الإله”، فكذلك “الأمانة” وصَّلته إلى “العدل بين الناس“، بحيث يكون عدله في الناس موصولا بتوحيده لربه؛ وهكذا، يكون “التوحيد” باعتباره أساس “الأمانة” و”العدلُ” باعتباره وسيلتَها، قد جعلا من “الأمانة” عبارة عن خُلُق جامع لأخلاق “الفطرة، هذه “الفطرة” التي جاء الدين على وفقها.  

لذلك، فإن إدراك الفيلسوف المسلم لحقيقة الفطرة الدينية يجعله يقتدي، في معرفة ذاته، بمسلك التخلق النبوي، أمانة وعدلا.

ومتى توسَّل الفيلسوف المسلم، في معرفة ذاته، بكمال الاقتداء بالنبي الخاتم، تفكُّرا وتخلُّقا، أي صدقا وأمانة، توصَّل إلى حقيقتين أساسيتين: إحداهما، أن كمال الحياة الطيبة لا يُدرَك إلا بكمال الاقتداء بالنبي الخاتم؛ والثانية، أن أعلى رتبة في التفكر والتخلق يمكن أن يَصِل إليها الفيلسوف المقتدِي هي رتبة “الصدّيق”؛ إذ يدركها بفضل اتخاذه النبي الخاتم ﷺ قدوة، فضلا عن تسليمه بالاجتباء الإلهي الذي خُصَّ به.  

وفي الختام، أستجمع كلامي، فأقول: إن أي فلسفة إسلامية معاصرة لا تحظى بـ”الأصالة” حتى يكون إشكالها الرئيس من إبداع الفيلسوف المسلم؛ ولا يتأتى له هذا الإبداع في الإشكال إلا إذا تفاعل مع التصورات الفلسفية الراهنة والتحديات العالمية القائمة، وصاغ نتائج هذا التفاعل المزدوج على مقتضى خصوصية مجال التداول الإسلامي؛ لهذا، لا بد من أن يأخذ بـ”الفلسفة” التي تنحو منحى “الحكمة“، منصرفا عن “الفلسفة” التي تنحو منحى “العلم”، وأيضا أن يشتغل بالتحدي الجذري الذي يواجه العالم اليوم، وهو “تسفُّل الإنسان“؛ وحينها، يُـمكن أن يبلغ مراده في النهوض بالمهمتين: إحداهما، “دفع التسفل“، إذ يهتدي إلى أخطر أسبابه، وهي: “التسيب التقني” للعلم و”التجرد القيمي” للمعرفة، كما يقف على أنجع الوسائل التي ترفعه، وهي: “تهذيب العلم” و”تسديد المعرفة”؛ والمهمة الثانية، “تجديد التفلسف الحِكمي (بكسر الحاء)، إذ يميّز في العقل بين “العقل المجرد” و”العقل المسدَّد”، ويؤسِّس “الخُلق” على “الفطرة”، ويَصل كمال “الاقتداء” برتبة “الصدّيقية”، مستدلا بإشكاله الفلسفي على ضرورة الرجوع بالفلسفة إلى أصلها وهو “الحكمة”، إذ هي وحدها القادرة على إنقاذ الإنسان من “التسفُّل”، حاضرا ومستقبلا.

 [1] مقابله الأجنبي: Metaphilosophy

[2] تأمل الحديث الشريف: “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”.

[3] الآية 79، سورة الأنبياء.

[4] أو إن شئتَ قلت “علاقات العمل” أو “علاقات الإعمال”.

[5] نستعمل كلمة “الانتفاع” بمعنى “الإشباع”.

[6] نستعمل مفهوم “المصلحة” هنا في مقابل مفهوم “المنفعة”.

المصدر : موقع معهد التفكر الإسلامي https://www.ide.org.tr/AR/listmenu/ar-konferans/detail/a5116fa5-853d-4ce7-9445-e9a9b3fe4c40

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى