في وداع الفيلسوف حسن حنفي: الإخواني الشيوعي الذي أصبح فيلسوفا.(2)
من لم يحط بعناصر تشكل شخصية الأستاذ حسن حنفي في مراحل حياته الأولى، لن يستطيع بنظرنا تكوين تصور متماسك عن مشروعه العلمي، وميراثه الفكري والفلسفي. لذلك يهاجمه الإسلاميون، ويتهمونه في دينه، بناء على اجتهاداته. غالبيتهم لايقرؤون ماكتبه، ولكن يكتفون بما كتبه قادتهم الأيديولوجيون، أو ماكتبه بعض خصومه وأقرانه، ممن يكتبون في الفكر الإسلامي، مثل الأستاذ محمد عمارة، رحمه الله؛ وهو رأيه وفهمه الذي يؤسس عليه اختلافه مع الآخرين. وكثيرا مايتحول الاختلاف إلى خصومات وسجالات، يستعملها الأتباع والمريدون، ويغذون بها الصراعات الأيديولوجية، الثقافية والسياسية في المجتمع. كما يرفض اليساريون، العرب، الأستاذ حسن حنفي، بسبب خلفيته الدينية. ولايشفع له عندهم أنه يبني رؤيته من منطلق أن الدين يمكن أن يكون قوة ثورية قادرة على التأثير في وعي الجماهير وفي فعلها ، وأن الدين يصلح أن يكون ( عمولة أيديولوجية) تنطلق منها الجماهير للتحرر من الظلم والاستبداد والاستعمار والتبعية. كما لايشفع له عند اليساريين أن الخلفية المنهجية لتصوره الفكري استمدها من فلسفات الفعل متجسدة في الماركسية، من منظور نقدي وإنساني، وكذا من مجهودات ( اليسار الهيجلي)، والتي تقوم على فلسفة النقد، وعلى فلسفة النقد الديني تحديدا. كما لم تقبل السلطة الأستاذ حنفي، وكانت تهادنه قليلا وتحاصره كثيرا، وقد حكى في مذكراته طرائف من ذلك ، في أكثر من بلد عربي. وحتى المنابر التي تستدعيه وتحتفي به، فبغرض تشويه خصومها السياسيين، من يساريين وإسلاميين وقوميين؛ فتجتزئ من مشروعه، وتهيئ له أسئلة موجهة وذات طبيعة وظيفية محددة!!
وعليه، سنحاول إعادة بناء الباراديغم المعرفي الذي يصدر عنه الأستاذ حنفي، من خلال تتبع النشأة العلمية الأولى لشخصيته، لنعرف لماذا ظل يدافع عن المصالحة بين الإسلام والماركسية؟ ولماذا ظل يدعو إلى الحوار والتواصل بين الإسلاميين واليساريين في العالم العربي والإسلامي؟
لقد مر الأستاذ حنفي من الكتاب القرآني، كبقية الأطفال المسلمين في كل البلاد العربية والإسلامية. وكان هذا المحضن أول احتكاك له بالقرآن الكريم. وقد عانى فيه كبقية الأطفال من صرامة منهج التعليم ومن قسوة الإمام المعلم! ترعرع في الأربعينيات في أجواء مزاج عام متحمس للثورة ضد القصر وضد الإنجليز. وكانت الساحة المصرية تتقاسمها أربعة تيارات رئيسة في الأربعينات ؛ هي: الوفد، ويتضمن ضمنه تيارا وفديا داخليا يساريا، والإخوان المسلمون، ومصر الفتاة، والحركة الديموقراطية للتحرر الوطني( تنظيم شبه ماركسي). ويحكي الأستاذ حنفي أن الطلبة لايميلون عادة إلى الوفد، وكان المصريون يحملونه مسؤولية التفريط في ثورة1919، ويعتبرونه حزب قصور وباشوات. ولايقدرون حزب مصر الفتاة، وكان يضم شخصيات سياسية وازنة، وكانوا تحت تأثير ما يشاع حول الماركسية؛ من أنها فلسفة مادية وملحدة!! فلا يتفاعلون مع التيارات اليسارية، أو الماركسية، أو شبه الماركسية. فلم يبق لهم إلا الإخوان فانظموا إليهم. وعاش الأستاذ حنفي في هذه الظروف حيرة مع من يكن؟ وانظم إلى الإخوان باعتباره خيارا مناسبا، بنظره، في ذلك الوقت؛ من دون علمه بالخبايا والصراعات الداخلية والتنظيم السري. وصادف تعرفه على الإخوان مقتل أحد أعضائهم وكان يسمى السيد فائز. ويذكر الأستاذ حنفي أنه يروج عنه أنه من ( يسار الإخوان)! ويحكي الأستاذ حنفي عن العلاقة الوثيقة التي يراها بين الإخوان وبين الضباط الأحرار، والتنسيق بين التيارين في حرب الفدائيين في قناة السويس(1951)، وقبل ذلك منذ 1948، في العمل الفدائي الفلسطيني. كان عمر الأستاذ حسن حنفي، حينها، ستة عشرة سنة؛ فقد شب إذن في جو تفاهم كبير بين الإسلاميين والضباط الأحرار. ولما اندلعت الثورة في 23يوليو1952، جسدت في بلاغاتها الأولى هذه العلاقات الحميمية بين التيارين، ثم انضمت التيارات الأخرى إلى الصف الثوري؛ من أجل: القضاء على الإقطاع، وعلى الملكية، و التحقيق في اغتيال قائد الإخوان حسن البنا، 12فبراير1949، وإعداد جيش قوي، وإقامة حياة ديموقراطية سليمة. لقد كان الإخوان مع الثورة في بدايتها،؛ فقد رفعت شعار الوحدة الإسلامية، بل حلت الثورة الأحزاب مثل الوفد، وأبقت على الإخوان. وقد كانت خطابات محمد نجيب، زعيم الضباط الأحرار، تقاطع بالتهليل والتكبير، قبل أن يزيحه عبد الناصر، ويتخلص من معارضيه، ويسجن الإخوان، ويحاكمهم في محاكم عسكرية، بعدما كانوا يمثلون نصف أعضاء مجلس قيادة الثورة الإثني عشر.
إن الأهم عندي في هذا السرد للأحداث هو أن الأستاذ حسن حنفي كان يؤرخ بتعاطف كبير مع الإخوان، بل بانحياز كبير لهم ضد عبد الناصر. وقد اعتبر الأستاذ حنفي اتهام الإخوان باغتيال عبد الناصر سنة 1954 بداية مأساة في التاريخ السياسي المصري الحديث. فالأستاذ حسن حنفي ينسب العملية إلى أحد شباب الإخوان، لكنه فعلها من تلقاء نفسه؛ ولاعلم لمرشد الجماعة حسن الهضيبي بذلك. بل يؤكد الأستاذ حنفي أن حسن الهضيبي كان ضد استعمال العنف. وأظهر الأستاذ حنفي رفضه لحل تنظيم الإخوان، وسجن قيادته، وإعدام المفكر القانوني المستشار عبد القادر عودة؛ صاحب الكتاب المرجعي في الدراسات الجنائية: ( التشريع الجنائي الإسلامي). وكان الأستاذ حنفي يميل إلى رأي الإخوان في رفض اتفاقية الجلاء التي وقعها عبد الناصر مع الإنجليز؛ وشارك في مظاهرات 1954. وكان الشهيد ( هكذا يصفه الأستاذ حسن حنفي) الدكتور عبد القادر عودة ملهما له وهو يلوح من شرفة عابدين للمتظاهرين، بقميص ملطخ بالدماء، مرددا:( هذه هي اخلاقهم)! وهو إلهام سيستثمره الأستاذ حنفي في موسوعته: ( من الفناء إلى البقاء: محاولة لإعادة بناء علوم التصوف)، في حوالي1532 صفحة.
لقد كان الأستاذ حسن حنفي يعيش داخل سياق سياسي قريب جدا من الإخوان، في بداية تشكله الشخصي. وستبرز في هذا السياق شخصية أخرى ملهمة للأستاذ حنفي في حياته، وفي طريقة صياغته لمشروعه العلمي، وهي شخصية سيد قطب، مما لا يعرفه عادة المطالعون لمنجز الأستاذ حنفي، بله غير المطالعين!!