في الفرق بين فلسفة العود الأبدي النيتشوي وعقيدة البعث القرآنية
تعتبر فكرة العود الأبدي التي عثر عليها نيتشه أول مرة في التراث الفلسفي اليوناني، ثم أعاد صياغتها على نحو ظن أنه يخلصها من الميتافيزيقا ويبنيها على قاعدتين من قواعد الفيزيقا، هما تناهي طاقة الكون من جهة ولا تناهي الزمان من جهة ثانية، حدسا عقليا لامعا، لكنه مع ذلك محدود. وعلة محدوديته هو مركزية الذاتية فيه. فلكأنه تطبيق من تطبيقات السفسطائية التي تجعل الإنسان مصدر الحقيقة ومآلها.
فلنشرح بعض الشيء فكرة العود الأبدي كما صاغها نيتشه، لنقف إثر ذلك على حدودها ونقارنها بسردية الوحي لقصة الوجود الإنساني. وما أعد به القراء هو أن أضع إيماني بين قوسين، وأن أتنكب مواطن المتانة والهشاشة في الفلسفة الوجودية النيتشوية بكل حيادية، حيث إنها تطرح نفسها على أسس علمية وهو ما يرشحها لتكون قابلة للدحض كأي نظرية علمية، بحسب ابستمولوجيا كارل بوبر في “منطق اكتشاف الحقيقة العلمية”.
أما عقيدة البعث فإننا نقدمها كما قدمت نفسها بنفسها: عقيدة إيمانية: من شاء فليؤمن بها ومن شاء فليكفر، أي من شاء أن يختارها بحرية فلسفة في الوجود، ومن شاء أعرض عنها.
لا شك في متانة الدعامتين اللتين قامت عليهما فكرة العود الأبدي لدى نيتشه:
– فلا يمكن أن يُتصوّر علميا للكون إلا طاقة محدودة، لأن القول بعكس ذلك يفرض الإجابة عن سؤال مصدر الطاقة اللامحدودة، وهو سؤال لا جواب عليه لأنه سؤال عن مستحيل.
– كما أنه يسهل التسليم بلا محدودية الزمن، مهما تسارع أو تثاقل في فضاءات تقارب المجرات وثقلها (نظرية النسبية العامة لأنشتاين).
فماذا ينتج عن هذين الأمرين بحسب نيتشه؟ ينتج عنه وصول الكون في لحظة ما إلى نهاية أدائه الطاقي، فيرتد في الزمن اللامتناهي المفسوح أمامه في حركة عكسية [كما يحصل للولب المضغوط] وتعود الحياة إلى سالف عهدها مارة بكل لحظاتها السابقة في كل تفاصيلها وجزئياتها مع كل فرد من أفراد الخلق البشري.
ماذا ينتج عن هذا التصور التكراري اللامتناهي للحياة شعوريا وأخلاقيا؟
ينتج عن ذلك القطع مع النظرة المسيحانية (الدينية بوجه عام) المزدرية لهذه الحياة الدنيا وتعجل نهايتها طمعا في حياة (أخرى) لا ألم فيها ولا شقاء…حياة سعادة أبدية، وبدلا من ذلك، اعتناق هذه الحياة بكل قوة، لكونها هي نفسها الحياة التي سيعيشها الإنسان إلى ما لانهاية، ولا حياة له سواها، وأن هذه السلسلة من الحيوات لا انقطاع يذكر بينها، لأنه بين الموت والحياة الجديدة لا يوجد فاصل شعوري مهما طال الفاصل الزمني الفيزيائي بينهما. وعليه، حريّ بالإنسان أن يجتهد في جعل حياته هذه أجمل حياة وأروع حياة لأنها الحياة التي سيعاود عيشها إلى ما لا نهاية.
في هذ التصور للعود الأبدي ولسردية الوجود الإنساني لا حاجة لفرضية أو عقيدة وجود الله والجزاء والعقاب والعدالة الإلهية، فالأمر كله يتم بصورة آلية لا تكسرها إلا إرادة الإنسان نفسه خلال تجربته “الأولى” في الحياة. الإنسان القوي، السوبرمان، المتخلص من الوعي المسيحاني التأثيمي الرديء.
وهذا هو المعنى القوي لمقولة “موت الإله” النيتشوية.
مناقشة:
– بالإمكان الانطلاق في مناقشة “العود الأبدي النيتشوي” بالتساؤل عن الأساسين الفيزيقيين اللذين تأسست عليهما، فنسائلها عن مصدر الكون ومصدر طاقته ومبدإ حركته الارتدادية التي هي ليست حتمية مادية بل ممكنا من الممكنات، حيث يمكن تصور حالة همود كامل وشامل وأبدي للكون بعد نفاد طاقته وتوقف الزمن نفسه، لأنه لا يمكن تصور زمن خال من الحركة تماما، فاستمراره في هذه الحالة واضمحلاله سيان، بل ليس هو في النهاية غير حدس عقلي ما قبلي، على رأي كانط، أو بنية ذهنية تنشأ عن التفاعل مع تسلسل الأحداث أو تزامنها في الطبيعة، على رأي بياجيه، سنترك كل هذه التساؤلات والاعتراضات، لنناقش اللبّ الأخلاقي لنظرية العود الأبدي النيتشوية، طالما أنها ليست بالحتمية المادية التي يظنها لها.
إن القول بتكرر حياة الذوات الفردية بنفس الكيفية لكل واحدة من هذه الذوات، بلذاتها وآلامها، وأفراحها وأتراحها، وسعادتها وشقائها، إلى ما لا نهاية، مع تفاوت كبير خطير في مقادير الألم واللذة والسعادة والمرض والصحة والشقاء والراحة والعذاب والسعادة والظلم والمظلومية والطغيان والاستضعاف، لأمر فظيع وعبثي إلى أبعد الحدود. أن يعود القيصر قيصرا والعبد عبدا، وفرعون فرعونا، والشعب المستضعف شعبا مستضعفا، والقاهر قاهرا، والمقهور مقهورا….لفلسفة جديرة بأن يُكفر بها ويُفَرُّ منها بكل قوّة إلى حيث يوجد معنى لحياة الإنسان وكفاحه وصبره وصموده ومقارعته للظلم والاستعباد والاستبداد، وإلى حيث يكون هنالك أمل في عدالة مطلقة وجزاء عن الثبات على الحق والصبر على المكاره ومقارعة للظلم، وقصاص واقتصاص من الظلمة والطغاة والمجرمين، إلى حيث “من يعمل مثقال ذرة خير يره، ومن يعمل مثقال ذرة شر يره”، إلى حيث توضع “موازين القسط ليوم القيامة فلا تُظلم نفسٌ شيئا”.
ترى لو علم نيتشه أنه سيعيش آخر أيامه عزلة قاتلة ويموت مجنونا، هل تراه سيسعد بأن يتكرر مصيره البائس هذا إلى ما لا نهاية، رغم تنظيره لإرادة القوة وللإنسان المتفوق؟! لقد مات الذي نظّر لقوة الإنسان المطلقة في حالة من منتهى الضعف، كأنه وهو الفيلسوف الجهبذ لم يسمع بالحكمة الشعبية التي يرددها عن حق بسطاء الناس: “كل قوة للضعف ترجع”.
“كلا إن الإنسان ليطغى أن رّآه [رأى نفسه] استغنى. إن إلى ربك الرّجعى”(العلق: 6-7-8). هي رُجعى وعود أبدي للخالق، ليس بعد هذه الحياة فقط، بل في هذه الحياة نفسها، حيث يعود الكائن الإنساني وكل مخلوق إلى ربه، أي خالقه، لا إلهه، الذي لا تكون العودة إليه إلا عودة إيمانية واعية، فيحتاجه في كل نفس يلج صدره، وإلى كل خفقة يخفقه قلبه، وكل نبضة ينبضها دماغه، دون إرادة منه، سواء كان سوبرمان نيتشه، أو مخلوقا ضعيفا، فإن “القوة لله جميعا” ومنه يستمد المخلوق القوة وبتكليف منه: “خذوا ما آتيناكم بقوة” (البقرة: 63). “ومن يتوكل على الله، فإن الله عزيز حكيم” (الأنفال: 49).
ومع ذلك توجد فكرة جميلة ثاوية في فلسفة العود الأبدي، انطلاقا من توصيتها بحرص الإنسان على أن يجتهد في أن يحيا أفضل حياة وأجمل حياة لأنها هي الحياة التي سيحياها مرات ومرات إلى ما لا نهاية له. غير أن كنه هذه الحياة الفضلى والطيبة ليس ماديا ضرورة، حتى وإن كان المادي ليس مستوحشا لذاته، بل لوحشيته لما يطغى (كالرأسمالية المتوحشة مثلا)، بل كنه هذه الحياة المرتجاة روحي وأخلاقي. فكل إنسان سيحيا، وفق منظور الدين، بعد حياته هذه، حياة يتوقف نوعها على روحانية وأخلاقية الحياة التي عاشها في هذه الدورة من وجوده، التي هي الدورة الدنيوية. فكلما كانت الروحانية أسمى والأخلاق أنبل، كلما كانت الحياة الثانية أجمل وأسعد. وبهذا يتحقق للإنسان المؤمن الصالح مع سردية القرآن الأمران معا: العدالة ومنتهى ما يصبو إليه من سعادة.