المقالات

عبد الجبار الرفاعي والأسئلة الأنطولوجية

يٌثير الكاتب الكبير سلامة موسى في كتابه “هؤلاء علموني” مسألة مهمة حول تحديد الشيء الأهم في حياة العظماء، هل هو تكريس الحياة بأسرها في سبيل قضية بعينها أم أن الطريقة التي نحيا بها هى الأهم؟ والحق أن الدكتور عبد الجبار الرفاعي قد جمع الحسنيين في آن واحد، فحياته كتاب حافل بالأحداث الدرامية التي ساقته إلى بعضها انحيازاته الواضحة التي دفع ثمنها تشريدا ومنفى، لم يمنعاه من التعلق بالكتب واقتناء مكتبة قيمة في كل مدينة أقام بها. قضى الرفاعي أكثر من أربعين عامًا من عمره طالبا ثم أستاذا لعلوم الدين في الحوزة، وبالرغم من ذلك فهو متحرر تماما من القيود الطائفية والأيديولوجية التي قد تستعبد غيره من دارسي علوم الدين. وهو قادر، في الوقت ذاته، على التحرر من الانحيازات المذهبية، فنجده يعترض على أدلجة الدكتور علي شريعتي للخطاب الهوياتي وتحويله إلى أيديولوجيا للإسلام السياسي. وهو أيضا قادر على محبة أصدقائه محبة بصيرة، فنجده يرى بوضوح تناقضات الدكتور حسن حنفي فيرصدها ويكتب عنها. تنبع رؤية عبد الجبار الرفاعي للأيديولوجيا من كونها محض احتكار لنظام إنتاج المعنى يضيّق بصيرة المؤدلج، فنراه على أتم الاستعداد للموت في سبيل ما يعتقده، لكنه لا يطيق تكريس دقائق من حياته للاستماع إلى مخالفيه ومحاولة الوقوف على ما قد يحمله رأيهم من وجاهة.

 الرائع في حياة وفكر الرفاعي أنه قادر على مواجهة نفسه وكشف أخطائه بنفس الشجاعة التي يواجه بها الآخرين. في هذا السياق يقص علينا الرفاعي قصة لقائه الأول بكتاب معالم في الطريق لسيد قطب، وكيف ضيّعه ذلك الكتاب ونظائره لسنوات وهو يبحث عن أحلام وهمية. لكن عقل الرفاعي اليقظ وضميره الأخلاقي الحي ينتفض ضد ثقافة الموت فيقدم لنا نقدا جريئا لفكر قطب، الذي زرع الغضب والاغتراب في نفوس آلاف من شباب المسلمين من السنة والشيعة على حد سواء.

 لا يسلم الاستبداد السياسي في العراق الشقيق من قلم الرفاعي، فيسخر من وهم (المؤامرة) الذي يتخفى خلفه الديكتاتور، فيسرق وينهب ويقتل تحت شعارات الوطنية، وقد شاع شعار “ماكو مؤامرة تصير والحبال موجودة” بعد ثورة 14 يوليو 1958. والحق أن أكبر مؤامرة تعرضت لها أوطاننا العربية هي حكم الفرد الذي اختزل الوطن في شخصه. ولم يفت الرفاعي أن يضع مثقفي السلطة أمام المرآة، ليروا ما اقترفته أياديهم حين انبطحوا أمام السلطة في انقلاب على المبادئ وخيانة للناس.

 يشتبك الدكتور عبد الجبار الرفاعي مع قضايا العصر، وينشغل بالكيفية التي تتفاعل فيها تكنولوجيا المعلومات مع عملية إنتاج المعرفة في عصر ما بعد الحداثة. بينما يعترف الرفاعي بتحوله إلى كائن إلكتروني فإنه يحذر من أن الذكاء الاصطناعي سيسمح لمزيد من متوسطي الموهبة بإنتاج نصوص تغيب عنها الروح والابداع والمعرفة. وقد مارس الرفاعي خلال حياته نوعا من الكتابة الموجعة – كما يحلو له أن يسميها-فهي كتابة تضع الكاتب في مواجهة النيران التي أحيانا تنطلق من فوهات صديقة.

التقيت عبد الجبار الرفاعي فيكرسي قنواتي بمقر معهد الدراسات الشرقية للآباء الدومينيكان، حيث ألقى علينا سلسلة محاضرات حول “علم الكلام الجديد” من الصباحإلى ما بعد الظهر، وهي القضية التي قرر أن يكرس لها ما بقى من عمره. تقوم فكرة الرفاعي على مبدأ محوري مفاده “مركزية الله في الوجود ومركزية الإنسان في الأرض في سياق مركزية الله في الوجود”، وذلك ما اصطلح عليه: “الإنسانية الإيمانية”. من خلال الإبحار في علم الكلام الجديد من منظور الرفاعي نكتشف معرفته الموسوعية بعلوم الدين والفلسفة والعلوم الإنسانية، ودراسته الوافية للعالم السيكولوجي داخل الإنسان ولمحيطه الاجتماعي أيضا. بذل الرفاعي جهدا كبيرا في إعادة تعريف: “الإنسان، والدين، وتعدد الطرق إلى الله، والوحي، والنبوة، والشريعة، والتكليف”، وأعاد ضبط المفاهيم مع ابتكار مصطلحات ومفاهيم جديدة إن لزم الأمر. من هذا المنطلق وضع تعريفا جديدا للدين بأنه: “حياة في أفق المعنى تفرضها حاجة الإنسان الوجودية لإنتاج معنى روحي وأخلاقي وجمالي لحياته الفردية والمجتمعية”. وأشار الرفاعي إلى أن الدين لا يحتكر إنتاج المعنى، معنى الحياة الذي ينتجه الدين يخلّد وجود الإنسان، خلافا لغير الدين الذي يختص معناه بتخليد ذكرى الإنسان في الدنيا. يتصدى الرفاعي لتعريف الإنسان في ضوء الفلسفة والعلوم الإنسانية الحديثة، وهو في ذلك يعارض المنطق الأرسطي الذي قام عليه علم الكلام القديم. ويعمل على تعريف: الوحي، والنبوة، والشريعة، والتكليف، وتعدد الطرق إلى الله، فالخلاص الأبدى أفق رحب يتسع للبشر أجمعين، وهذه نقطة اتفاق بينه وبين محيي الدين بن عربي، رغم معارضته لابن عربي وللمتصوفة في غيرها. نسخة الرفاعي من علم الكلام الجديد تنقذنا ممن اعتقلونا خلف أسوار الصورة المظلمة لله، مؤكدا أن الله بذاته وصف نفسه بأنه “نور على نور”، وبالتالي فكل ما لا يقودنا إلى النور هو من عند غير الله.

تقدم هذه النسخة رؤية للمواجهة الفكرية مع التطرف الديني، ودعاة فكرة “الإسلام دين ودولة”، فهو يقول أن النبوة مهمة دينية بحتة، وما دونها من شؤون الدولة وتداول السلطة والعلوم والمعارف والثقافة هو دنيوي لا ريب في ذلك. وهو في ذلك أيضا يكشف عوار الشعارات التي يرفعها أنصار “أسلمة المعرفة” فهؤلاء أصحاب أيديولوجيا تصبغ كل شيء في حياة الفرد والمجتمع بصبغة دينية.

كان ذلك هو الرفاعي الموقف والفكر المؤمن المستنير الملتزم بالعبادة، والمعارض للاستبداد، الذي فر من العراق سنة 1980 بعد أن حكم عليه بالإعدام، ثم عاد إليها عودة الطير المهاجر، مناضلا في داخل العراق من أجل الوطن ومن أجل الدين والمعرفة. أما الرفاعي الإنسان فقد عرفته بشوشا، مرهف الحس، لديه قدرة مذهلة على جعلك صديقا منذ اللقاء الأول، متخطيا حواجز السن، والجنسية، والانتماء المذهبي. وهو متجدد مثل الطفل المقبل على الحياة، محب للاجتماع بالناس، والاستماع لهم بتواضع العالم، وحكمة الشيخ، وحنان الأبوين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى