المقالات

ردًّا لاعتراضات الشيخ مولود السريري على مشروعية علم المقاصد وإمكان تاسيسها فلسفيا

جُزْء -2-

16. ما ذَكَـره “طه” من تعريف لِـ”عِـلْم ٱلْمَـقاصِـد” رَكَّـز فيه على ٱلْـأَرْكان ٱلثَّـلَـاثة ٱلْـمُشْترَكة بين سائِـر ٱلْعُلُوم (ٱلْموضُوع، ٱلْمنهج، ٱلْمَسائِل ٱلْـقَطْـعيَّة) وأشار إلى أنّه بحَسَب ظنّ «بعض ٱلنّاس ٱلذين يَجْـعلُـونه عِـلْمًا مُسْتقِـلًّـا ومُسْتغْـنِـيًا بنفسه». لكنْ لَـا شيء في عبارة “طه” يَـدُلّ على أنّ قَصْدَه في مدخل كتابه كان تحريـر تعريفٍ لِـ”عِـلْم ٱلْمَـقاصِـد” بذِكْـر جميع حَيْـثيَّاته ٱلْمُخصِّصة وٱلْمُميِّـزة. وإِلَّـا، لَـمَا تَحدَّث عن “ٱلِـادِّعاء” و”عدم ٱلِـاكْتمال”. ولِـذَا، فذهابُ ٱلشَّـيْخ “السريري” إلى ٱلِـاعْـتراض على ذاكـ ٱلتَّـعْـريف بذريعة عدم كِـفايته في تمييز “عِـلْم ٱلْمَـقاصِـد” إنّما هو سُـوء فهْمٍ آخَـر منه أو حِـيلةٌ لِلتَّـمَكُّن من تعاطي ٱلتَّشْـغِـيب أو إظهار ٱلتّعالُم، على ٱلرّغْـم من أنّ مَـدارَ كَـلَـام “طه” كلّه إنّما هو حول إيراد ٱعْـتراضه ٱلْمُتعلِّق بكوْن “علْم ٱلْمَقاصِد” يَفْتقد ٱلتّأسيسَ من جهة مشْـرُوعيّته. ولَـا يُـرى، هنا، كيف يُمْـكِـن أن تَصِحّ مُؤاخَـذتُه بأنّه توَسَّـل بـﭑلْـقليل ٱلذي يُمَكِّـنه من إقامة ٱعْـتراضه ذاكـ؛

17.  ما لم يَقُـلْه ٱلشّيخ هو أنّ كُلَّ عِـلْـمٍ مخصُوصٍ يَـمْـتنع أن يَـقُوم في ٱلْـواقع من دون تلكـ ٱلْـأَرْكان ٱلثَّـلَـاثة ٱلْمذكُورة؛ إذْ ما حقيقةُ عِـلْمٍ ليس له موضُوع مُحدَّدٌ، ولـا له منهجٌ مُـقَـرَّرٌ، ولَـا يَسْتند إلى مَسائِـل مَقْطُوع بها؟! ثُـمّ هل يَكُون ثَـمَّـة معنًى لِـأَيِّ حَـيْـثيَّـةٍ مُمْكِـنةٍ من دُون ٱلْـإقْـرار بـتلكـ ٱلْـأَرْكان ٱلتي تُـؤْخَذ بوصفها حَـيْثيَّات أَساسيَّة في كُـلِّ حَـدٍّ أو تعريفٍ على ٱلنّحْو ٱلذي يجعل غيرَها حَـيْثيَّاتٍ ثانويَّة أو تَكْمِـيليَّة؟!  

18.  لِـأَنّ ٱلشّيْخَ لم يَـنْـتبه إلى أنّ صِفةَ “ٱلْـمُحدَّد” («له موضُوع مُحَـدَّد») تتضمَّن تلكـ  ٱلتي يَظُنّ أنّه لَـا أحد أَعْـرف بها منه، فإنّ ما دخل فيه من ضُرُوب ٱلْمُماحَكة لَـا يُفِـيد إِلَّـا في تعليم ٱلطُّـلَّـاب ٱلْمُبْتدِئين، ولَـا يُفيدهم إلَّـا إلى حدٍّ ما، لِـأَنّ أَيَّ إرادةٍ حقيقيَّة لِـتَـعقُّب “ٱلْحَـيْـثيًّات” من شأنها أن تَقُود إلى مُواصَلة ٱلْبحث في جُـزْئيَّاتٍ لَـا تكاد تنتهي، وهو ما يَقْـتضي أنّ رَبْـطَ تمييز “ٱلْعِـلْم” بضَبْط جِـماع “ٱلْحَيْثيّات” لَـا يتأتّى ٱبْـتداءً كأنّه يُمْكِـن حَسْـمُه قَـبْليًّا بصفةٍ نهائيَة، وإنّما يبقى تَـقْـريبيًّا ومُؤَقًّـتا في حُدُود أهمّ ٱلْمُكْتسَبات ٱلْحاضرة ٱلنّاتجة عن «عمل ٱلْبحث» ٱلذي من شأْنه وحده أن يُمَكِّـن شيئًا فشيئا من ذلكـ ومن دون أن أيِّ طَمَعٍ في تَمام ٱلْـإِحاطة. وهذا ما يُدْرِكُه مَـنْ يَـرى كيف أنّ كُلَّ عِـلْمٍ حقيقيٍّ مَصيرُه أن يَـتفرَّع ويَـتشعَّب بحيث تَـزْداد وتتوالى ٱلتَّخصُّصات فيه كما هو حال “ٱلرِّياضيات” و”ٱلطّبيعيَّات” (أو “ٱلْـفيزياء”) بوصفهما من أفضل ٱلنّماذج في ٱستقصاء “ٱلْحَيْثيّات”. وعليه، فـلَـا يَصِحّ ٱلِـاعْـتراض على “عِـلْم ٱلْمقاصد” من جهة كوْنه لَـا يَـقْـبَل أن يَسْـتقلّ عن “عِـلْـم أُصُول ٱلْـفِقْه” بوصفه ٱشْـتغالًـا بِـ”ٱلْـأَحْـكام ٱلشَّـرْعيَة” في صِلتها ٱلْـوُثْقى بِـ”مَسالِكـ ٱلْعِلَـل”؛

19.  إرادةُ تمييز “ٱلْعِـلْم” بـﭑلْحدّ أو ٱلتّعْـريف كتَـقْـرير أوَّليّ وقَـبْـليّ إنّما هي طمعٌ في ٱلْمُحال، لِـأنّ تَعْـليقَ ٱلْحدّ ٱلتّامّ بمُـلَـاحقة “ٱلْحَيْثيّات” يَقْـتضي أنّ ذلكـ لَـا سبيل إليه إلَّـا بَعْـد تَمام ٱلْـإِحاطة بكُلّ ٱلْجُزْئيَّات في “ٱلْعِـلْم”. لكنّ مثل هذه ٱلْـإحاطة تُعَـدّ شِبْـهَ مُمْـتنِعة ما دام “ٱلْعِـلْمُ” سَـيْـرُورةً مفتُوحةً أمام جُـهُـود ٱلْبحث في تَـعَـدُّدها وتَـغيُّرها وتفاوُتها. ولِـذَا، فتَمْيِـيزُ “ٱلْعِـلْم” بما يَخُـصُّه في ذاته ليس غايةً قُصْـوَى، بل هو مَطْـلُوبٌ فقط لِـأَجْـل ٱلتَّـمْكِـين لِـدراسة مَوْضُوعه ٱلذي لَـا يَتحدَّدُ إلَّـا بقَدْر ما يُتغَلْـغَلُ فيه ويَـتواصَل ٱلِـﭑشْتغالُ به، فتَمْييز “ٱلْعِـلْم” بمَوْضُوعه تابعٌ لِلْمنهج ٱلْمُعْـتمَد لِلْبحث فيه إلى ٱلْحدّ ٱلذي سمح بـٱلْـقول إنّ “ٱلْمنهج” هو ٱلذي يَخْـلُق “ٱلْـموضُوع”. وقد يَجْـدُر، هُـنا، ٱستحضار درْس “فَـيِـرَابْـند” عن “ٱلْـمنهج” لِـإدْراكـ أنّ عدمَ ٱنْـفكاكـه عن ٱلطّابع ٱلْـإشْكاليّ ٱستكشافًا وٱسْتدلَـالًـا يجعل طلبَ تمييز “ٱلْعِـلْم” بـﭑلتَّـرْكيز على شيءٍ آخَـر غير موْضُوعه ومنهجه في تعاضُدهما ليس سوى فَذْلكةٍ مَدْرَسيَّةٍ أو تَـمْـرِين خِـطابيّ؛

20.  إذَا كان ٱلتَّمْـيِـيزُ بين ٱلْعُـلُوم يُعيِّـن حُدودًا فاصلةً تَـفْـرِض نفسَها – بِقَـدْرٍ ما– على ٱلْمُشْتغِلين بها، فهذا لَـا يَسْـتلزمُ ٱدّعاءَ وُجُود فَصْلٍ تامٍّ بَـيْـنها؛ لِـأنّ ٱلْحُدودَ ٱلْمرْسُومةَ بين ٱلْعُلُوم تبقى بـﭑلضَّبْط حُدودَ (أو تُخُومَ) تَماسٍّ على ٱلنَّحْـو ٱلذي يَسْمَحُ بإمْكان ٱلتّفاعُل بينها من حيث إنّ مَجالَـات ٱلتَّخصُّص تَـتِمُّ على أساس حفظ إِمْكان ٱلتّكامُل بين عِـلْم وعِـلْمٍ آخَـر مُجانِسٍ أو خادِمٍ له (كما هو ٱلْحال، مَـثَـلًـا، في مَجالَيِ “ٱلرِّياضيّات” و”ٱلطّبيعيَّات” وفُـرُوعهما ٱلْـكثيرة). ولِـذَا، فمَهْـما يَـبلُغِ ٱلتَّخصُّصُ في مَجالٍ بعيْـنه، ليس هناكـ مانِـعٌ من تَـداخُلِ أو تَكامُلِ مَجالَـات ٱلتَّخصُّص ٱلْمُتبايِـنة كما صار مُؤكَّـدًا ومُطَبَّـقًا بـﭑلضَّبْط في ٱلْعُقود ٱلْـأَخيرة. وإنّه لمن أشدّ ٱلْمُفارَقات أن يُـرى كيف أنّ مُتخصِّـصًا في مَجالٍ مثل “عِـلْم أُصُول ٱلْفقه” (ٱلذي لم يَـنْشأْ، أصْـلًـا، إلَّـا بفضل ٱلتّداخُل وٱلتّكامُل بين مَجالَـات “علم ٱلنّحْـو” و”عِلْم ٱلْـبلَـاغة” و«عِـلْم ٱلْكَـلَـام/أُصُول ٱلدِّين» و”عِـلْم ٱلتَّـفْسير” و”عِـلْم ٱلْمَنْطِق” و”عِـلْم ٱلْجَدل”) يَسْتبعد شيئًا كَـ«عِـلْـم ٱلْمَقاصِـد» في نُـزُوعه إلى ٱكْـتساب ٱسْـتقلَـاله ٱلنِّـسْـبيّ بما هو عِـلْمٌ أَخْـلَـاقيٌّ!

21.  لَـا يبدو أنّ ٱلشّيْخَ يقف عند واقع أنّ ٱلْعِلْمَ ٱلْواحدَ يَقْـبَـلُ أنّ يَتعدَّدَ ويَـتفرَّعَ تَـقْـرِيبًا إلى ما لَـا نهاية. ذلكـ بأنّ هناكـ عُـلُومًا لَـا يَتعيَّـنُ أحدُها إِلَّـا بما هو مجمُوعةٌ من ٱلْعُلُوم أو ٱلْمَجالَـات ٱلْمُتمايِـزة وٱلْمُتكامِـلة كما هو ٱلْحال في “ٱلرِّياضيَّات” و”ٱلْمنطقيَّات” و”ٱلطَّبيعيَّات”. وفحوى هذا أنّ «عِـلْم أُصُول ٱلْـفِقْه» – ٱلذي هو، بـٱلْـأَساس، عُـلُوم شتّى مُتداخلة- لَـا شيء فيه يَـمْـنَع من أن يَـتعيَّـن على تلكـ ٱلشّاكلة بحيث يَكُـونُ عُـلُومًا عديدةً (علْم ٱلْـأَحْـكام، عِلْم ٱلْعِـلَل، عِـلْم ٱلذَّرائع، عِـلْم ٱلْمَقِاصد) مثله كمثل «عُـلُـوم ٱلْحديث»؛

22.  إذَا كان ٱلْـفقيهُ إمّا أن يَنْـظُـرَ في ٱلْمَقاصد بـﭑعْـتبارها أساسيَّةً في إدْراكـ ٱلْـأَحكام أو ضبْطها وتوجيهها، وإمّا أَلَّـا يَـنْظُـر فيها بـﭑعْـتبار تبعيَّـتها لِما سِـواها، أَفَـلَـا يُجِـيزُ هذا تمييزَ «ٱلْـفقيه ٱلْمَقاصديّ» عن غيره ٱلذي قد يَكُون، مَـثَـلًـا، «فقيهًا نَـوازِليًّا» أو «فَـقِـيهًا ذَرائِعيًّا»؟! ثُمَّ كيف يُمْكِـن أن يتأتّى قيامُ «عِـلْم أُصول ٱلْفقه» من دون أن تَكُون “ٱلدّلَـالةُ” كُلُّها مُقْـتضِيةً دائما لِـثُـبُـوت “ٱلْـإِرادة” و”ٱلْحِـكْـمة” أَصْـلًـا في كُلّ معنًى أو حُـكْـمٍ؟! وهل ٱسْتصعاب ٱلْـإِحاطة بِـ”ٱلْـإِرادة” و”ٱلْحِـكْـمة” ٱلْـإِلَـاهيَّـتَـيْـن يُوجِب إهمالَ أَيِّ بحثٍ يَطْـلُب بِناءَ ٱلْـقَدْر ٱلْمُمْكِن من معرفةِ ٱلْكَيْفيَّة ٱلتي تَتَعلَّق بها، في كُلّ حين، تَـانِكـ “ٱلْـإِرادةُ” و”ٱلْحِـكْـمةُ” بوُجُـود ٱلْـإِنْسان وفِعْـله؟! أَلَيْس ٱلِـﭑعْـتراضُ بإطْـلَـاقٍ على إِمْكان قيام «عِـلْم ٱلْمَقاصِد» كعِـلْمٍ مُسْتقلٍّ أشْبهَ بـﭑلِـﭑعْتراض على «عِـلْم أُصُول ٱلْفِقْه» عيْنه في عَـلَـاقته بـﭑلْعُـلُوم ٱلتي سَبَـقْته إلى ٱلِـﭑشْتغال ببعض مَسائِـله إِجْمالًـا أو تفصيلًـا؟! وكيف يُمْكِـن أن يَكُون هناكـ تجديدٌ في عِـلْم يُـراد له أن يُـؤْخَذَ كما لو أنّه حاز مُطْلَق ٱلتَّمام؟! 

23.  إنّ ٱلشيخَ “السريري”، بمُحاولته ٱلثّانية هذه في رَدّ ٱلتّساؤُل عن «مشْـرُوعيَّة عِـلْم ٱلْمَقاصِد» وٱلْبحث عن تأسيسها، يبدو كأنّه لَـا يُـريد إِلَّـا أن يَتفادى ما هو أشدّ؛ إذْ لعلَّه يَخْـشى أن يَنْتقِـلَ قُـرّاءُ كِتاب “طه” إلى ٱلتّساؤُل عن «مشْـرُوعيَّة عِـلْم أُصُول ٱلْـفِقه» كُـلِّه من حيث إنّ ثُـبوتَ ٱفْـتقاد «عِـلْم ٱلْمَقاصِـد» للتَّأْسيس يَقْتضي أنّ ٱكْـتفاءَ ٱلْـأُصُوليِّـين بـﭑلنَّظر في “ٱلشَّـرْعيّة” يُفيد أنَّهُم يَنْصَـرِفون عن ٱلنَّظَـر في “ٱلْمشْـرُوعيّة” ٱلذي هو شَـرْط ٱلتّأْسيس ٱلْفلسفيّ وٱلْـأَخْـلَـاقيّ (و، من ثَـمَّ، ٱلْعِـلْميّ) لذلكـ ٱلْمَجال ٱلْمخصُوص. ولَـا يَخفى أنّ ٱلتّساؤُلَ عن «مشْـرُوعيَّة عِـلْم أُصُول ٱلْـفِقه» سيَـفْـتَحُ أَبْـوابَ ٱلِـﭑعْتراض على ما يَظُنّ ٱلشَّيْخ أنّه ٱنْـتهى عِـلْـمًا مُكْـتمِـلًـا بين يَـدَيْه على ٱلرَّغم من أنّ كوْنَ «عِـلْم أُصُول ٱلْـفِقه» ليس سوى فَـرْعٍ من “ٱلْمَنْطِقيَّات” يُوجِب عَـرْضَ كُلّ ٱلْمَـوْرُوث ٱلْـأُصوليّ على ما ٱسْتجدّ عالَـميًّا من مُكْتسَباتٍ عِـلْميّةٍ مُـنْـذ نهاية ٱلْـقرن ٱلتّاسع عشر ولَـا سيَّما في “ٱلْمَنْطقيَّات” و”ٱللِّسانيَّات” (بمُخْـتلِف فُـرُوعها) ومَجالَـات “فلسفة ٱلْعُلُوم” و”فلسفة ٱللُّغة” و”فلسفة ٱلذِّهْن”، وهي ٱلْمُكْتسَبات ٱلتي لَـا يزال مُعْظَمُها حبيسَ ٱللُّغات ٱلْـأَجنبيَّة ٱلْكُبْـرى (ٱلْـإِنْجليزيّة، ٱلْـأَلْمانيّة، ٱلْـفرنسيَّة). وبِـما أنَّ ٱلشَّـيْخَ لم يَـتبيَّـنْ مدى أهميَّة عمل “طه” ٱلْـفلسفيّ في تأسيس مَـشْـرُوعيّة «عِـلْم ٱلْمَـقاصِد» بما هو تحديدًا عِـلْـم أَخْـلَـاقيّ، فكأنّه يُـرِيدُ أَنْ يَسْـتديمَ ٱستبدادَ «ٱلْـفقه ٱلِـﭑئْـتماريّ» بـٱلنَّظَـر في “ٱلشَّريعة” وفقط في حُـدُود ٱلْمورُوث ٱلْمُـتقادِم منهجيًّا ومَعْـرِفيًّا، على ٱلنَّحْـو ٱلذي يَكْـفُـل تأخيرَ فَـتْـح تلكـ ٱلْـأَبْـواب بما يُبْعِـدُ ٱلدِّراساتِ ٱلْـأُصُوليَّةَ عن مُواجَهة مُشْكِـلة مَـشْـرُوعيّتها ٱلْـعِـلْميّة ويُجنِّب ٱلْمُشْتغلِـين بها كُلَّ ما من شأْنه أن يُشكِّـكَـ في حقيقة نُـفُـوذهم أو سُلْـطتهم بما هُـمْ حُـرَّاس ٱلدِّينِ وشريعتِه؛   

24.  بِمُقْتضى ما سَلَف، ورُجُوعًا إلى ما بَـدأ به ٱلشّيخُ كَـلَـامه من أَنَّ «ٱلتَّـقْـوِيم ٱلْـأُصوليّ، إذَا سُلِّط على ٱلْمَشاريع ٱلثّقافيّة ٱلْمُعاصرة ٱلْمُتعلِّقة بـﭑلْـأُمور ٱلدِّينيّة، سيقضي ببُطْلَـان أغلب مَضامِـينها»، يُمْكِـن بـﭑلْمِثْـل أَنْ يُقالَ بأَنّه لَـوْ سُلِّطتْ تَـرَسَانةُ ٱلْمُكْـتسَبات ٱلْمُسْتجدِّة عِـلْميًّا وفلسفيًّا على عِـلْمَي “أُصُول ٱلْفِقْه” و”أُصُول ٱلدِّين” لَـقَضَتْ ببُــطْـلَـان مُعْـظَم مَضامينهما، لِـأَنَّ ٱلْعِـلْمَ في تَـطُّورٍ دائمٍ على ٱلنّحو ٱلذي يجعل ٱلْمَعارفَ ٱلـلَّـاحِـقة تَـنْقَـلِبُ على ٱلْمَعارِف ٱلسّابقة. ويُمثِّل “ٱلْمنطق” أَبْـرَزَ مِـثالٍ بهذا ٱلْخُصُوص، إذْ كان بعضُ ٱلْعارِفين به إلى حُـدود ٱلْـقرن 18 يَظُنُّون أنّه قد ٱكْـتمَـل مع “أَرِسْطو” بما لَـا مَـزِيد عليه. لكنْ لم يَكَـدْ يَنْـتصف ٱلْـقرنُ 19 حتّى تَـبَـلْوَرت أَنْظارٌ مُسْتجدَّة وٱزْدادت إحْكامًا في نهاية ٱلْقرن 19 وبداية ٱلْـقرن 20 فأَدَّتْ إلى تجديدٍ منهجيٍّ وتَـوَسُّعٍ مَعْـرِفيٍّ في مَجال “ٱلْمنطق” ٱلذي صار يَتحدَّد على أَساس ٱلتَّعدُّد بأنّه “مَنْـطقيَّات” (les logiques). ووَحْـده من لَـا يَسْتحضر حقيقةَ شتّى ٱلِـﭑنْـقِـلَـابات ٱلتي عَـرَفْتها ٱلْعُـلُومُ في عصرنا يُمْكِـنُه أن يَـبْقى مُتمسِّكًا بأَسْـيِجة ٱلْمُكْـتسَبات ٱلْـقديمة ظانًّا أنَّها مُكْتملة بما لَـا يُستطاع تَعدِّيه!

25.  لعلّ هذه ٱلْـمُـلَـاحَظات تكفي لِبَـيان أنّ ما أَلْقاه ٱلشَيْخ “السريري” لَـا يَعْـدُو أن يَكُون تَشْغِيبًا عُرِض كَـلَـامًا مُرْسَلًـا إِمّا من جَرّاء سُوء ٱلْفهم، وإمّا بغرَض ٱلـتَّعالُم، وإمّا لِـأَجْل تفادي مُواجَهة «سُؤال ٱلْمشرُوعيّة» ٱلذي طَرَحه “طه” عن «عِلْم ٱلْمَقاصِد» بحثًا عن تأسيسه فلسفيًّا وأخْـلَـاقيًّا، وهو ٱلسّؤال ٱلذي يُمْكِـن أَنْ يَمْتدّ إلى «عِلْم أُصُول ٱلْفِقْه» بكامِله. ويأتي رَدِّي لِـكَـلَـام ٱلشَيْخ على أساس أنّ تَمْحيصَه نقديًّا يُظْهِـر أنّه لَـا شيء فيه يَجعلُه مُقْـنِعًا من ٱلنّاحية ٱلْـعقليّة. غير أنّ إبْـداءَ مُـلَـاحَظاتي لَـا يَسْتَـلْزِمُ، بأَيِّ حالٍ، أنَّ جِــماعَ فِـكْـر “طه” في كِـتابه ٱلْمَعْـنيّ (أو في غيره) يُسْتَـبْعَد أن يُساءَل ويُـراجَـع نَـقْـديًّا؛ بل ٱلْمَحْـذُور هو ٱفْـتعال ٱلنَّـقْـد تَشْـغِـيبًا أو تَـشْنيعًا. وإذَا كُنْتُ قد حَـرَصْتُ على تَـفْـرِيغ كَـلَـام ٱلشّيْخ ونَـقْـله كِـتابيًّا وتَحْرير رَدِّي عليه، ففقط لِكَيْ أُظْهِـرَ أنّ ٱلْفِكْر ٱلْمُحْكَمَ لَـا يكاد يَتأتّى إِلَّـا عن طريق ٱلْـكِـتابة بـﭑعتبارها بِناءً موضُوعيًّا ومنهجيًّا يُتِيحُ أكبرَ قَدْرٍ مُمْكِـنٍ من ٱلضَّبْط وٱلتَّـقْيِـيد في تناوُل سوانِح ٱلْخَاطِـر وعَـواهِـن ٱلْـكَـلَـام. ولَيْتَ كثيرين بَيْننا يَنْتبهون إلى أَنّ ٱلْخَوضَ في ٱلْكَـلَـام ٱلشَّفَويّ، بـٱلْـأَخصّ كما صار مُيسَّرًا مع وسائِـل ٱلتّواصُل ٱلِـﭑفْتراضيّ، ليس مِيزةً في حدِّ ذاته، بل إنّ ضَـررَه ٱلْمُحْتمَلَ أكبرُ من نَفْعه ٱلظَّاهِـر، لِـأَنّه لَـا يأتي – في مُعْـظَمه– إِلَّـا تعبيرًا عن آفات ٱلِـﭑسْتسهال وٱلِـٱسْتعجال!

عبد الجليل الـﮕـور

عبد الجليل الـﮕـور، كاتب مغربي، مترجم ومُدرِّس للفلسفة، من مواليد 1968؛ صدرت له عدة كتب: منها ترجمة كتاب "أسئلة علم الاجتماع: في علم الاجتماع الانعكاسي" (الدار البيضاء-دار توبقال: 1997) و"تساؤلات التفلسف وتضليلات اللَّغْـوَى" (إربد-عالم الكتب الحديث: 2013) و"مفهوم الفطرة في فلسفة طه عبد الرحمن" (بيروت-المؤسسة العربية للفكر والإبداع: 2017) و"التفلسف تحطيما لأصنام التضليل" (بيروت-المؤسسة العربية للفكر والإبداع: 2020).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى