الشر المطلق ومسؤولية الفيلسوف
كما أن “الإعلامي ابن لحظته”، و”المؤرخَ ابن حقبته”، و”السياسيَّ ابن ظرفه”، و”الصوفي ابن وقته”، كذلك “الفيلسوف ابن ساعته”؛ لكن يبقى أن لكلّ واحد من هؤلاء خصوصيتَه الزمنية واختياراتِه المنهجية ومقاصدَه المعرفية؛ لذلك، تجدني محمولًا، تحت سلطان الضمير وثِقل الأمانة التي حمَلها الإنسان ابتداءً، على ممارسة “التفكر” في “الحدث الأعظم” الذي يميِّز الساعة التي نحن فيها.
معلوم أن الحدث الأعظم الذي تضِجّ به الساعة هو “ظهور الشر المطلق”؛ فأطرح، بصدده أسئلة أختصر هاهنا الجواب عنها؛ وهذه الأسئلة، هي التالية: ما معنى ظهور هذا الشر؟ وما طبيعته الجوهرية؟ وما أسبابه الخفية؟ وما آثاره البعيدة؟ وكيف يمكن أن نتقيه بقوة؟
ما معنى ظهور الشر المطلق؟
قد يبدو لأول وهلة أن هناك تعارضًا بين مفهوم “الظهور” ومفهوم “الإطلاق”؛ فـ”المطلق” لا يظهر للعيان، و”الظاهر” لا يُطلَق من كل قيد؛ لكن هذا التعارض يرتفع متى عرفنا أن “الشر المطلق” ليس ذاتًا معينة موجودة في الخارج، بحيث يمكن أن يشار إليها أو ينادَى عليها، وإنما هو عبارة عن أعمال محدَّدة مؤذية إيذاء أبرز صفاته ثلاث:
إحداها؛ أن هذا الإيذاء يعطّل العقل، فلا يقدِر على أن يتصور هذا الإيذاء، فضلًا عن أن يصدّقه؛ كما أنه يعطّل الإرادة، فلا تقدِر على أن تقصده، فضلًا عن أن تتخيره.
والثانية؛ أن هذا الإيذاء لا ينفد ولا ينحدّ؛ فلو قلّبنا هذه الأعمال المؤذية على أي وجه من الوجوه الممكنة، فلا نجد فيها ذرة خير، بل بقدر ما نواصل تقليب هذه الوجوه، يشتد، في أعيننا، ظهور الأذى فيها؛ إذ يكون الوجه اللاحق من كل عمل من هذه الأعمال أشد إيذاء من الوجه الذي سبقه، بحيث يتكاثر الأذى في هذا العمل ويتعاظم حتى لا نهاية يقف عندها.
والثالثة؛ أن قدرة هذا الإيذاء على الظهور تزدوج بقدرته على الخفاء؛ لمّا كان إقدام الشرير على أعماله يزداد بقدر ما يتمكن من ناصية العلم والتقنية، فقد يتخذ عنده الإيذاء صورًا خفية لا يُتفطّن إليها بالمرة؛ وهذا الخفاء ليس أقل إيذاء من ظهوره، بل قد يكون أشد وأنكى، لأن هذا الخفاء، في الحقيقة، يُراد به من الشر ما لا يُتوصَّل إليه بالظهور.
ما طبيعة “الشر المطلق” الجوهرية؟
يكفي، في تحديد هذه الطبيعة، أن نرجع إلى النموذج الأمثل لهذا الشر في هذه الساعة، ألا وهو “القتل الجماعي العمد للأبرياء” [1]! فلما كان “الأطفال” هم، بدورهم، النموذج الأمثل للأبرياء، كانت طبيعة “الشرّ المطلق” أكثر تحديدًا وبروزًا في “قتل الأطفال” منها في قتل غيرهم، فيتعين إذن أن نطلب عناصر هذه الطبيعة في “قتل الأطفال” بالذات.
أولها، أن القتل في حالة الطفل، وإن وقع على روحه، فالمراد، في الأصل، هو إيقاع القتل على “البراءة” التي تتحقق بها روحه؛ وقتلُ الروح إنما هو الوسيلة الموصّلة إلى قتل “البراءة”؛ فتُقتل “البراءة” بقتل “الروح”.
والعنصر الثاني، أن “براءة” الطفل هي من “الفطرة” التي فُطر عليها، بل تكون “البراءة” كناية عن “الفطرة”؛ فيرجع قتل “البراءة”، في نهاية المطاف، إلى قتل “الفطرة” نفسها.
والعنصر الثالث، أن “الفطرة” هي عبارة عن “مستودع القيم” في باطن الإنسان؛ فيلزم أن قتل “الفطرة” إنما هو قتل القيم كلها.
المطلق” ليس مجرد تأزيم للقيم التي بين أيدينا، بحيث يصح أن نقول: “إن الشر المطلق عبارة عن أزمة القيم”، ولا هو حتى قلْب القيم إلى أضدادها، بحيث يصح أن نقول: “إن الشر المطلق عبارة عن انقلاب القيم”، وإنما هو، على التعيين، قتلُ القيم أو محوها بِما يُفقد الإنسان القدرة على تمييز الخير من الشر والحق من الباطل، بحيث يصح أن نقول: “إن الشر المطلق عبارة عن فتنة القيم”.
بهذا، يتبين أن “الشر المطلق” عندي ليس هو “الشر المتجذِّر” عند الفيلسوف الألماني التنويري “كانط”، ولا هو “الشر المبتَذَل” عند الفيلسوفة ذات الأصل الألماني المعاصرة “أرَنْدت”؛ إذ المقصود بـ”الشر المتجذِّر” هو كون الإنسان مجبولًا على الشر، بحيث لا يمكن اجتثاثه من باطنه؛ وهذا غير مسلَّم، لأن الإنسان منفتحُ الجبلَّة، إذ يحمل في باطنه استعدادات للخير حمْلَه لاستعدادات الشر؛ والمقصود بـ”الشر المبتَذَل” هو حال الإنسان الذي لا يهمّه إلا تنفيد أوامر رؤسائه، متخليًا بالكلية عن إعمال فكره، وغير قادر على أن يحكُم على أفعاله حكمًا أخلاقيًا؛ وهذه الحال تخص أفرادًا معيَّنين أُوكلت لهم مهامّ مخصوصة، بينما “الشر المطلق” هو حالة قصوى من الإيذاء لعموم الإنسانية يتسبب فيها أفراد أو جماعات يوظّفون فكرهم المجرَّد لإيقاع موصول الأذى بها، حتى يحملوها على فقدان القدرة على التسديد [2].
ما هي الأسباب الخفية للشر المطلق؟
يكفي، في توضيح هذه الأسباب، أن نتبين “ماهية” الإنسان في سياق هذا الشر؛ فهذا السياق يجعلنا نكتشف أن “الشر المطلق” لا يُتلف فطرة الإنسان فحسب، بل يُتلف أيضًا ماهيته؛ ونستدل على ذلك بخطوتين:
إحداهما، أن ماهية الإنسان لا تتحدد، على خلاف الاعتقاد السائد، بالعقل[3]، لأن الحيوان، هو الآخر، يعقل على قدره، حتى ولو سُمّي عقله بـ”الغريزة”، وإنما تتحدد بما أسميه “المواثقة”؛ فخصوصية الإنسان أنه ذاتٌ تحيط بها المواثيق من كل جانب؛ فلا يأتي فعلًا من أفعاله إلا بميثاق، سواء أتذكَّره أم لم يتذكره؛ فقد واثق ربَّه، غيبًا؛ وواثق أنبياءه، شهادةً؛ وواثق مجتمعه، نطقًا وسكوتًا؛ ولا ينفك يواثق نفسه، سرًا وعلنًا؛ أو قل، بإيجاز؛ إن الإنسان كائن ميثاقي.
والخطوة الثانية، الظاهر أنّ أعمَّ هذه المواثيق تعلَّق بإرادة الإنسان، إذ تعهَّد لربه أن يجعل إرادته موافقة لإرادته”، علمًا بأن “الإرادة” هي أصل “الحرية”، وأن “الحرية” أصل “المسؤولية”؛ فهذا الميثاق “ميثاق إلهي” نعلم يقينًا بوجوده، وإن كنا لا نعلم بكيفية هذا الوجود، وقد نسمّيه: “ميثاق الإرادة”[4]؛ ولَمّا كان أعمَّ المواثيق، لزم أنه إذا انتقَض، انتقضت باقي المواثيق.
وحينها، يتبين أنّ السبب الرئيس لـ”الشر المطلق”، باعتباره مُتلفًا لماهية الإنسان، إنما هو كونه ينقض “ميثاق الإرادة”؛ وفي نقضه هذا الميثاقَ الإلهي، ينقض كل المواثيق المحدّدة لماهية الإنسان، إلهيِّها وإنسيّها، خاصّها وعامّها، شاهدِها وغائبِها، جليّها وخفيّها؛ وهكذا، فإن “الشر المطلق” يـُخرج مرتكبه من “عالم الميثاق” إلى عالم لا ميثاق فيه بالمرّة، أي لا إنسان فيه، إذ وجود الإنسان إنما هو بوجود الميثاق.
ما هي الآثار البعيدة للشر المطلق؟
أكتفي هنا بالوقوف عند نوعين بارزين من هذه الآثار، أحدهما: “آثاره البعيدة بالنسبة للشرير”؛ والثاني، “آثاره البعيدة بالنسبة للشعب المبتلَى بهذا الشر”؛ والمقصود بـ”البعيدة” أن ملاحظة هذه الآثار قد لا تكون مباشرة، وأن ظهورها قد يستغرق وقتًا غير قصير، وأن إمكان إخفائها، بل، إمكان إنكارها، قائم.
أما عن “الآثار البعيدة للشر المطلق بالنسبة للشرير”، فإن الشرَّ المطلق ينزع عن مرتكبه لباس الإنسانية بالكلية؛ ومعلوم أن المنسلخ من الإنسانية، وإن بقي له شبح الإنسان، فإنه لا شيء من روحه يبقى؛ فمداركه أضحت غيرَ مدارك سواه من الناس، حتى ولو اتَّحد موضوع الإدراك عندهما، فقد بات عقله يـُجرّد المدرَكات من كل قيمها، إذ أساس العقل المجرَّد هو “الفصل” بين المدرَكات؛ كما أن مشاعرَ المنسلخ من إنسانيته أضحت غيرَ مشاعر سواه من الناس، حتى لو اتحد مجال الشعور عندهما، فقد بات وجدانه يقطع عن الأشياء المشعور بها كل صلاتها، إذ أساس الوجدان الحي هو “الوصل”.
وأما عن الآثار البعيدة للشر المطلق بالنسبة للشعب المبتلى بهذا الشر، فإن تحمُّل أفراد هذا الشعب لـ”الشرَّ المطلق” ينزلهم المراتب الثلاث الآتية:
أولاها، أنه يجعل منهم آيات في “خُلُق الائتمان”، إذ علاقتهم بالأشياء، على قلة هذه الأشياء، تبدو وكأنها لم تكن أبدًا علاقة حيازة، وإنما علاقة أمانة؛ فما يقع بين أيديهم لا يأمنون بقاءه، بل لا يحرصون على بقائه ما كان هذا البقاء يُشعر بالحيازة؛ وما خرج من أيديهم اعتبروه أمانات حان أوان ردّها إلى صاحبها.
والثانية، أن “خُلق الائتمان” يورّثهم سموًا روحيًا لو أن الجبال حصَّلته لعرَجت إلى السماء، وإلا فأقل من أنه يرقى بهم إلى رتبة الكمال الإنساني، بحيث ينزلون مقام القدوات لغيرهم.
والثالثة، أن مقام “القدوة” يؤهلهم لأن يحدثوا الثورة القيمية الضرورية للإنسانية لإنقاذ نفسها من شبح “الشر المطلق” الذي يراودها، ذلك أن هذا الشبح يكمن في صُلب قدراتها العلمية والتقنية نفسها؛ فما لم تظل هذه القدرات، وهي لا تنفك تتكاثر وتتفاقم، مسدَّدة بالقيم المناسبة لكل طور من أطوارها، فلا مأمن من انطلاق شرهم المستطير في أية لحظة، لا ليفتك بأمة مستضعفة هنا أو هناك بغير حسيب ولا رقيب كما يفعل في هذه الساعة، وإنما ليجرّب مطلق شرّه، حتى لو كان ذلك بمحو العالم كله.
كيف نتقي هذا الشر بقوة؟
أقول إنه لا مسؤولية أنيطت بالإنسان أثقل، ولا ألزم، من مسؤولية التصدي لـ”الشر المطلق”، وذلك بموجب المصدرين الحاكمين اللذين هما: “النظر” و”الخبر”[5].
أما من جانب الحاكم الخبري، فقد أُخبِرنا أن “قتل النفس بغير حق” ينزل منزلة “قتل الناس جميعًا”[6]، فيترتب على هذا الخبر وجود “المسؤولية عن كل الناس جميعًا، أفرادًا وجماعات”، تعظيمًا للروح؛ كما أُخبِرنا أن “قتل المسلم” ينزل منزلة “هدم الكعبة”[7]، فيترتب على هذا الخبر الثاني وجود “المسؤولية عن الكعبة”، تعظيمًا لها”؛ وليست هذه المسؤولية من جنس المسؤوليات المعلومة بين “سدانة” و”سقاية” و”وفادة” ومثيلاتها، وإنما هي “مسؤولية معنوية”؛ إذ إن “الكعبة” هي، في الحقيقة، مستودع القيم في الظاهر، بدليل دوام استقبالنا لها، وما كانت لتُستقبَل على الدوام لولا أنها بيت يجسّد القيم في الأرض؛ ولما كانت “الكعبة” مستودع القيم في الظاهر، فقد رجعت “المسؤولية عن الكعبة” إلى كونها “المسؤولية عن ظاهر القيم”.
وأما من جانب الحاكم النظري، فقد تبيَّن أن “قتل الروح” البريئة هو “قتل للفطرة”؛ فعندئذ، تتعين المسؤولية عن الفطرة؛ كما تبيّن أن “قتل الفطرة” هو قتل للقيم كلها؛ فحينها، تتعين “المسؤولية عن القيم”؛ ولما كانت الفطرة هي مستودع القيم في الباطن، فقد رجعت “المسؤولية عن الفطرة” إلى كونها “المسؤولية عن باطن القيم”.
وبناءً على هذين المصدرين: “الخبر” و”النظر”، يجوز أن نقول: “إن الكعبة هي الفطرة في الظاهر”، أو نقول: “إن الكعبة ظاهر الفطرة”؛ كما يجوز أن نقول: “إن الفطرة هي الكعبة في الباطن”، أو نقول: “إن الفطرة هي باطن الكعبة”.
إعلان
ومن هنا، يمكن ردّ المسؤوليات التي يوجبها التصدي للشر المطلق إلى مسؤوليتين عظيمتين، وهما: “المسؤولية عن الناس جميعًا، أفرادًا وجماعات”، و”المسؤولية عن القيم جميعًا، ظاهرًا وباطنًا”.
أما “المسؤولية عن الناس جميعًا، أفرادًا وجماعات”، فإنها توجب التبيُّن بأن الشر المطلق حيثما وقع، فأمرُه يتعلق، بالضرورة، بالإنسانية جمعاء، نظرًا لأنه يذهب بمواثيقها، ويُهدّد مصيرها؛ لذلك، ينبغي أن تُتخذ كل وسائل دفع هذا الشر على صعيد العالم بكلية مؤسساته، وتشترك فيه جميع الأمم بكل مقدَّراتها، وليس على صعيد المكان الذي وقع فيه أو الشعب الذي وقع عليه، لأن هذه المواثيق لا تتعلق بهم وحدهم، فضلًا عن أن وسائل دفعه تتعدّى طاقتهم.
وأما عن “المسؤولية عن القيم جميعًا، ظاهرًا وباطنًا”، فيجب التنبيه على حقيقة أساسية، وهي أن الشر المطلق، في هذه الساعة، وقع في زمن أخلاقي مخصوص، وهو “زمن المسلمين”؛ ذلك أنَّ لكل دين زمنَه الأخلاقي الذي يمتد من ظهور هذا الدين إلى غاية مجيء الدين اللاحق، بحيث يكون المتدينون به هم الذين يتعين عليهم، بالأساس، تحمّل المسؤولية عن القيم في العالم كله؛ وعلى هذا، فلما كان الزمن الأخلاقي الراهن هو زمن الإسلام، بحكم خاتمية هذا الدين، فقد وقعت المسؤولية عن القيم في العالم، بالأصالة، على المسلمين، وبالتبَع، على غيرهم من الأمم الأخرى.
وإذا كان الأمر كذلك، فقد لزم أن يكون الذين يتصدَّرون المواجهة القيمية لـ”الشر المطلق” في أي مكان في العالم يحدث فيه، وبحق أي شعب يتعرض له، مسلمًا كان أو غير مسلم، هم “المسلمون” قبل غيرهم؛ كما لزم أن تكون هذه المواجهة ذات مكوّنين اثنين: “مادي” و”معنوي”؛ إذ المقصود بـ”ظاهر القيم” هو الوسائل المادية التي ينبغي أن يكون المسلمون سبّاقين إلى توفيرها للشعب المبتلَى، حتى يقدر على التصدي للمفاسد الظاهرة لـ”الشر المطلق”؛ والمقصود بـ”باطن القيم” هو الوسائل المعنوية التي ينبغي أن يكون المسلمون سبَّاقين إلى أن يـَمدُّوا بها الشعب المبتلَى، حتى يقوى على التصدي للمفاسد الباطنة لـ”الشر المطلق”.
ولا بد من التأكيد على أن مواجهة “الشر المطلق”، ما لم تتم وفق متطلبات الزمن الأخلاقي الخاتم على النحو المذكور، فسيبقى “الشر المطلق” يتهدد شعوب العالم كله؛ إذ ليس للعالم من سبيل لاتقاء “الشر المطلق” إلا بالعودة إلى “قانون الفطرة”، بدَل البقاء على “فوضى الغريزة”؛ ولا عودة ممكنة إلى هذا القانون الفطري إلا باستعادة المواثيق المنقوضة؛ وهذه الاستعادة الميثاقية هي، بالذات، ما يتفرد الزمن الأخلاقي الخاتِم بالقدرة على الاضطلاع بها على الوجه الأكمل.
وعلى الجملة،، فإن الفيلسوف مطالَب بأن يتفكر طويلًا في أحداث الساعة التي تقع في حياته، ولا حدث أعظم في هذه الساعة من “الشر المطلق”؛ ذلك أن هذا الشر المستطير يظهر في أعمال مؤذية لا يُتصور أذاها ولا يُقدَر عليه، ولا تنحدُّ وجوهه، ويزدوج ظهوره بخفائه، وأن جوهر هذا الشر إنما هو “إتلاف الفطرة”، وأن السبب الدفين من ورائه إنما هو “إبطال المواثيق”؛ كما أن آثاره البعيدة تتمثل في انسلاخ الشرير عن الإنسانية، بينما تتمثل، على العكس من ذلك، في تحقُّق من يؤذيهم بأخلاق الائتمان والسمو الروحي وفي انتصابهم قدوات للعالم؛ وبهذا، يُـمثلون “ثورة القيم” بحق، هذه الثورة التي تحتاجها الإنسانية أيَّما حاجة لإنقاذ نفسها من “الشر المطلق”، وذلك بسبب تقدّمها العلمي والتقني الهائل والمهوِّل.
ولا يتأتى اتقاء “الشر المطلق” إلا بالجمع بين المسؤوليات التي جاء بها “الخبَر” والمسؤوليات التي توصَّل إليها “النظر”؛ وتتصدَّرها مسؤوليتان اثنتان: إحداهما، “المسؤولية عن الناس جميعًا، أفرادًا وجماعات”، وهي توجب أن يتولى العالم بأسره تحديد وتوفير الوسائل الكفيلة بدفع “الشر المطلق”، بدءًا بقطع أسبابه، وانتهاء بالاقتصاص من المتسبّب فيه؛ والثانية، “المسؤولية عن القيم جميعًا، ظاهرًا وباطنًا”، وهي توجب أن يكون السبق للمسلمين، بحكم خاتمية زمنهم الأخلاقي، في إمداد الشعب المبتلى بهذا الشر المستطير بالوسائل المادية والمعنوية، حتى يقدروا على مواجهة أذاه الذي لا يوصف، بل لا يُقال؛ وفي دوام هذه المواجهة وحدها حظوظ بقاء العالم، وإلا، فمصيره الفناء المحتوم.
_______________________
[1] أو قل “الإبادة”.
[2] نميز بين نوعين من التفكير: “التفكير المجرد” و”التفكير المسدد”، بينما “أرندت” لا تميز بينهما؛ فصاحب “الشر المطلق” يفقد التفكير المسدد، بينما يحتفظ بالتفكير المجرد، بينما صاحب “الشر المبتذل” يفقد عموم التفكير.
[3] المقصود هنا “العقل المجرد”، أي العقل المعزول عن إدراك القيم.
[4] سبق أن وضعت له، في سالف مؤلفاتي، اسم “ميثاق الاستئمان”.
[5] أو قل “النقل” و”العقل”؛ وأنبه إلى أن النقل ليس نقيضًا للعقل؛ ففي النقل عقل، والمراد به النص أو الخبر؛ والخبر لا يخلو من العقل، بل قد يكون الخبر عقليًا بالكلية، وخبَريته لا تقوم إلا في كونه منقولًا أو مرويًا عن أحد.
[6] تدبر الآية 32، سورة المائدة: “مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا”.
[7] أخرج ابن ماجه أن ابن عمر قال: “رأيت رسول الله ﷺ يطوف بالكعبة، ويقول: ما أطيبك، وأطيب ريحك! ما أعظمك، وأعظم حرمتك! والذي نفس محمد بيده، لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك، ماله، ودمه”؛ كما أورد الطبراني في الصغير عن أنس مرفوعًا، أن رسول الله ﷺ قال: “من آذى مسلمًا بغير حق، فكأنما هدم بيت الله”.
المصدر : موقع الجزيرة.نت