وائل حلاق والمقابلة على قناة الجزيرة
تابعت كغيري من المهتمين بالفكر العربي الإسلامي حلقتي المقابلة مع على الظفيري على قناة الجزيرة، والتي استضافت الباحث الأمريكي الفلسطيني البارز وائل حلاق، لقاء استفز الكثير من المسلمات عند القارئ والمثقف العربي الإسلامي، ونجح في منح الفرصة للمثقف كي يلعب دوره في تحريك الفكرة وتغيير النظرة وسقف الأفق.
يعلم جل المهتمين، أن ساحة الفكر العربية الإسلامية منذ ما سمي بالنهضة، ميزتها سردية أساسية، تقوم على محاولة الإصلاح وتجديد ما درس من الإرث الحضاري العربي الإسلامي، أو تجاوزه عند البعض، أو الالتحام بالدين أو الانفصال عنه. وهم في كل هذه التوجهات يرومون مقصدا أساسيا هو “الإصلاح” مع اختلاف في المنطلقات والأدوات، ولعلهم يؤكدون سواء من عني بالتراث أو طالب بالقطيعة معه، أهمية هذا التراث ومركزيته في تصوراتهم.
إذن، فهذه السردية أصبغت جميع المكتوب العربي صبغتها وألبسته لبوسها، بدرجات ومغايرات فكرية تنحصر في النهاية داخل الأفق عينه (إصلاح الواقع العربي الإسلامي واللحاق بالركب الحضاري للشعوب المتقدمة !). ولسنا في حاجة للتذكير بالأسماء التي شكلت لحمة هذه المدونة العربية الحديثة والمعاصرة. ممن اهتمت بالتنوير والعقلانية والفصل والوصل وتقسيمات العقل العربي وإعادة قراءة النصوص الدينية والتاريخانية والعلمانية وغير ذلك، فما الذي تغير مع حلاق إذن؟
تبدو الإجابة بسيطة هنا، ولعل حلاق يريد لها ذلك، وهي إختلاف السؤال والغاية، فصاحب الدولة المستحيلة، لا يهمه فيما كتب سؤال التقدم والتخلف أو اللحاق بالغرب أو الإصلاح، بقدر ما يهمه معنى التقدم والتخلف والإصلاح عينه؟، كما يلاحظ ذلك القارئ لمجموع كتبه، والمستمع لحواره هذا وغيره من الحوارات الأخرى.
إذن، هي مياه جديدة تجري في النهر، همها التساؤل عن مسارات الحداثة ونهاياتها المأساوية، بمعنى أنها ذات أفق كوني هذه المرة، وليست منحصرة في واقع وجهة ما، ما دامت الحداثة مما عمت به البلوى في عالمنا المعاصر. وأما الغاية فلم تعد الإصلاح، وإنما التجاوز واجتراح نمط حضاري آخر !
والسؤال عن الحداثة عند حلاق ونهاياتها، تتممه طبيعة أغراضه التي لا يمكنها أن تكون الإصلاح، ما دامت الحداثة مؤسسة في إجابات حلاق على مقدمات لا يمكنها إلا أن توصلنا لما نحن عليه اليوم. ولهذا، يبدي الرجل حدّية كبيرة في إهمال سؤال إصلاح الحداثة، ويبدي في المقابل اهتبالا بالغا بالتجارب والأسس الأخرى التي يمكنها أن تؤسس لنماذج حضارية أخرى.
هنا، سيضع حلاق التراث العربي والإسلامي في زاوية نظر جديدة، تجمع شقيه المكتوب والعملي/الواقعي كما أسماه. وهذه انعطافة أخرى تميزه عن سردية الفكر العربي الإسلامي الرائجة. وأعتقد أن مفهوم التراث عنده متضام في نصوصه مع تجلياته الواقعية، ولذا، يغلب على حديثه الربط بين الشريعة وطبيعة العيش الاجتماعي عند المسلمين، وربطها كذلك بعلاقاتهم بغيرهم من أصحاب الديانات الأخرى داخل البلاد الإسلامية، وذلك بعبارة أخرى، نوع من الرؤية للعالم لا تنفصل أجزاؤها بل تتكامل في الأدوار، تظلها في البدايات الشريعة الإسلامية، وتقود وجهتها نحو المغايرة الحتمية لمسار الحداثة في النهايات، بناء على اختلاف منطلقات كل منها.
بهذا، يخبرنا حلاق، أننا نحتاج جميعا في عالم اليوم، للإنقاذ وليس الإصلاح، ونحتاج جميعا للاستفادة من النموذج الحضاري الإسلامي، والذي تكمن قوته في كونه تجربة واقعية تجسدت على أرض الواقع، وقريبة منا زمنيا، بل ويراها ناجحة أيضا في علاقتها بالإنسان والعالم. ولذلك، يعتقد أننا إذا لم نستثمر هذا النموذج سنضيع بذلك فرصة ثمينة بين أيدينا، تمنحها هذه الحضارة للبشرية، بكل حمولاتها الدينية والمعرفية والثقافية..الخ.
دون شك، فما قيل أعلاه، سيكون موضع لبس كبير عند الباحث العربي الإسلامي، والباحث على الصعيد العالمي أيضا، وللتذكير فحلاق لا يكتب للنوع الأول، وإنما للغربي بالدرجة الأولى، ممن يرى أن الاشتباك الفكري معهم واجب وضروري، لما قد يخلفه من تغييرات قد تساعد على تغيير الوجهة وتحصيل الأغراض التي يرومها حلاق، وتحصيل حلفاء لهم تأثير عالمي، ولهذا أورد حواره أسماء غربية عديدة تشترك معه في هذا الهاجس المعرفي، واسم عربي إسلامي واحد. وترجمته لمشروع الفيلسوف المغربي طه عبدالرحمان وتقديمه للقارئ الغربي، داخل في هذا السياق. وإن صرح باختلافه مع طه في مطلب إصلاح الحداثة، ومفهوم العقل وغيرها.
أما مسألة تلقي حلاق داخل الوسط العربي الإسلامي، فهي ملتبسة، وقبل شرح أوجه هذا الالتباس لابد أن ننوه، بإيجابية عودة الدور التثقيفي الواعي لدور النشر، ونقصد دار الشبكة العربية التي حرصت على ترجمة أعمال حلاق الفكرية، وكذلك المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة الذي كان له السبق في ترجمة كتابه “الدولة المسحيلة” (نشر في 2014).
وأوجه الالتباس تكمن في تلقي نصه الأول، أي كتابه الدولة المستحيلة، والذي لا تزال فكرته ملغزة عند الجميع، فكان تلقيها يغالبه الرفض عند فئة العلمانيين وكذلك عند الإسلاميين. إلى جانب الاعتقاد بأن أفكار حلاق تحمل الكثير من المبالغة في تحميل الغرب والحداثة أتون العالم، وتبالغ كذلك في تثمين المنظومة التراثية الإسلامية، والشرعية منها على وجه الخصوص، وتحملها ما لا تطيقه. وقد بلغ الأمر ببعضهم أن يرى في أفكاره تأسيسا جديدا للدولة الدينية بأدوات جديدة ولغة غير العربية.
وللإنصاف فأحكام هؤلاء ونقودهم مع حسن الظن بأصحابها، تنم عن انحباس في تطوير آليات قراءة التاريخ والتراث الإسلامي، وتنم عن توقف عند سقف أهم رموز الفكر العربي المعاصر. ولنقل عند سقف السردية الفكرية العربية الإسلامية آنفة الذكر. وما يدفعنا لوصف هؤلاء بهذا الكلام، وخصوصا في نظرتهم للتراث والتاريخ الحضاري الإسلامي، مرتبط بابتعادهم الواضح عن مواكبة تطورات الدرس الفكري الغربي، وبالأخص “الانجلوساكسوني”، في شقه المهتم بالتراث والحضارة الإسلاميين، إذ كثير من رؤى حلاق، وليدة مسار تغير نظرة هؤلاء للتراث الإسلامي، وتغير طريقة دراستهم له، دون أن نغفل هنا، تطور حجم المشتغلين من ذوي الأصول الإسلامية والمسيحية العربية داخل هذه المدرسة (إن صح نعتها بذلك). وبذلك فنحن أمام سردية معرفية أخرى، تتأسس هذه المرة بشراكة بين باحثين تجمعهم عولمة المصير هذه المرة.
ونعود مجددا في ختام هذه المقالة المختزلة لنثمن هذا النوع من النقاش، الذي أعاد توطين التراث الإسلامي في موضع المركز مرة أخرى، وأعاد السؤال عن طبيعة استيعابنا للحضارة العربية الإسلامية، واستيعابنا لعمق فلسفتها في تأطير الوجود وترشيد الإنسان، وغيرها من الأسئلة والغايات.