في وداع المفكر المغربي محمد بريش: جدل الرياضيات والمستقبليات ومقارنة الأديان. (2).
مثل الأستاذ بريش، رحمه الله، نموذج المثقف المميز، من داخل تجربة الفكر الإسلامي المعاصر، إذ نقل هذا الفكر من حالة دعوية سطحية، تقوم على الهجاء والتحريض، ضد المشاريع الفكرية المغربية والعربية وضد أصحابها، إلى حالة من الحوار والاشتباك ، القائمين على التنوع والاختلاف والنقد النزيه، بعد الإلمام الدقيق بأفكار المخالفين.
وكان مشروع الأستاذ محمد أركون، رحمه الله، من أول المشروعات التي اشتبك معها الأستاذ بريش؛ فقد حرر سنة1985 دراسة مطولة ذات خلفية نقدية لمشروع أركون. نشرت على صفحات مجلة(الهدى) سنة1986، في خمس حلقات متتالية. وكانت هذه المجلة من أجود المجلات الفكرية والثقافية المهتمة بالفكر الإسلامي المعاصر. كان يديرها الرجل المربي الأستاذ المفضل فلواتي، رحمه الله، ويرأس تحريرها الأستاذ محمد بريش، رحمه الله. وتبرز هذه الدراسة سعة اطلاع الأستاذ بريش، ومنهجه في النقد، واحترامه الكبير للمخالف؛ فقد ذكر، بتواضع جم، أنه حرر تلك الدراسة وهومازال في ريعان الشباب(33سنة)، كما صرح بسياق كتابتها؛ وهو النقاش الذي أثاره إحداث شعب الدراسات الإسلامية في الجامعات المغربية، بين من عارض هذا التأسيس واعتبره شكلا من أشكال محاربة المد التنويري/أو الأيديولوجي لشعب الفلسفة في الجامعة المغربية، ومن اعتبره نوعا من (أسلمة المعرفة والجامعة)، ومن اعتبره مجرد لعبة سياسية للدولة، لتحقيق التوازن في الجامعة، بين امتداد يساري متجذر وبين قوى إسلامية صاعدة ، وفي إطار( لعبة التوازنات) و( اللعب على المتناقضات )، وهو نهج يقوم عليه بناء الدولة، والصراع على السلطة في المغرب، وهناك من اعتبر الأمر مجرد تدافع طبيعي بين المذاهب والأفكار والمرجعيات يعرفه مجتمع متنوع مثل المجتمع المغربي، و تطيقه الجامعة وهي مكانه الطبيعي. ويذهب الأستاذ بريش إلى أن العامل الأجنبي/الفرنسي على الخصوص، كان له الدور الكبير في تأجيج ذلك الصراع، والتحريض ضد شعب الدراسات الإسلامية، والدفع ببعض رموز الفكر ممن يدرسون في الجامعات الفرنسية بالتورط في هذا النقاش، وكان من بينهم، بنظره، الأستاذ أركون، بوعي منه أو بدون وعي. ويؤكد الأستاذ بريش، برغم هذا السياق، أن الغرض من الاشتباك الفكري مع الأستاذ أركون، لم يكن يستهدف التقليل من القيمة العلمية والفكرية للمشروع، ولا الطعن على صاحبه، بل كان الغرض هو( نشر نوع من الفكر التحليلي، وإحياء مدرسة الحوار الثقافي داخل الحقل الإسلامي، دون تجريح ولاتكفير). وقد ألزم الأستاذ بريش نفسه، كما دعا قارئه، إلى التحلي بضوابط العلم والموضوعية، مع احترام المفكرين وتقديرهم ، مهما كانت درجة الخلاف معهم. لذلك كان الأستاذ بريش يصف الأستاذ محمد أركون ب: البروفيسور. وسمى الدراسة: (دراسة نقدية لأعمال البروفسور محمد أركون)، ويتبع اسمه بقوله: محمد أركون وفقه الله.
وقد سلك الأستاذ بريش في اشتباكه الفكري مع الأستاذ أركون مسلكا استقصائيا، يقوم على استيفاء الموضوع حقه في البحث والتنقيب؛ فرجع إلى كتب الأستاذ أركون في نصوصها الأصلية(أي الفرنسية)، كما رجع إلى النصوص المترجمة منها للمقارنة، واشتبك مع مترجميها، وصحح ترجماتهم، وكشف تحريفهم النص الأصلي لأركون، خصوصا مترجمات المترجم السوري هاشم صالح. وقد نقده الأستاذ بريش بحدة وخطأه في أكثر من مسألة في ترجمة النص الأصلي لأركون، أو في قدرته على متابعة صدى انتاجات الأستاذ أركون في المجلات العربية. وانتقد كتابه ( جولة في فكر محمد أركون، نحو أركيولوجيا جذرية للفكر الإسلامي) . ووصل الأستاذ بريش إلى أن الكثيرين من مترجمي نصوص الأستاذ أركون كانوا يخوضون حروبهم الأيديولوجية ضد التيارات الإسلامية بنحله الأقوال حينا، وبانتحال أفكاره حينا آخر. كما تتبع الأستاذ بريش الأستاذ أركون، يجمع سيرته؛ وعقد لقاءات مع الجهات التي تستضيفه ، وحضر دروسه في جامعة السوربون، ومحاضراته في أوروبا، وسأل عنه الكثير من أهل بلدته وقريته، كما استجوب الرهبان الذين كانوا يستضيفونه، ويحاضر عندهم، وجالس تلامذته، وجمع مقالاته وحواراته ، وتصريحاته للصحف والقنوات والإذاعات، وكأننا بصدد عمل مونوغرافي ميداني واسع. وبعد كل هذا قال الأستاذ بريش: (ثم بعد ذلك حاولت التجرد من المواقف الجاهزة، وجعلت الدكتور محمد أركون يعرفنا بنوع من التفصيل عن البروفسور أركون محمد.) فالتزم بما كتبه الأستاذ أركون، وبما ضمنه كتبه، ونقل عددا وافرا من نصوصه، من دون تعليق عليها، وترك الحرية للقارئ في التفاعل معها، مما يظهر لنا أننا أمام نموذج راق للحوار والاختلاف يقدمه الأستاذ بريش، ويمكن الرجوع إلى تلك النصوص في الحلقة الثانية من دراسته المنشورة على صفحات مجلة (الهدى).
ولم يلج الأستاذ بريش أعماق المشروع الفكري للأستاذ أركون، بعدما استجمع عدته البحثية، ووفره له مادة أولية غزيرة، قبل أن يطلع على المشاريع الفكرية التي عاصرت مشروع الأستاذ أركون، بما يبرز اطلاعه عن كثب عما يجري في الساحة الفكرية والثقافية المغربية والعربية، والإشكالات التي تؤطرها، وهي: ( المدارس الفكرية والسياسية الغربية والشرقية بشقيها الليبرالي الديمقراطي، والاشتراكي الماركسي، ومدى صلاحيتها وفعاليتها عند التطبيق في العالم العربي والإسلامي)، و( قضايا التراث العربي الإسلامي، بما فيه الوحي، قرآنا أوسنة، والصراع حوله، وهل هو مجرد إرث ورصيد تاريخي وحضاري، وحسب؟) و( قضايا الواقع العربي والإسلامي المعيش، وماله علاقة بالتخلف والتنمية والغزو الثقافي الغربي والتحدي الصهيوني والوحدة بين الحكومات، وغياب الحريات…)، وهي قضايا النقاش الفكري في السبعينات والثمانينيات، في العالم العربي والإسلامي. لذا وجد الأستاذ بريش نفسه ملزما، من الوجهة المعرفية والمنهجية ، بالاطلاع الواسع على تلك المشاريع الفكرية، فقرأ ماكتبه رواد الفكر في المغرب؛ مثل الجابري، في (نحن والتراث)، وفي الجزء الأول من مشروعه النقدي: نقد العقل العربي، بعنوان: تكوين العقل العربي. ورواد الفكر المغاربي، مثل هشام جعيط، في كتابه: ( الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي)،و ماكتبه روادالفكر العربي في المشرق، مثل طيب تيزيني، في مشروعه: (مشروع رؤية جديدة للفكر العربي منذ بدايته حتى المرحلة المعاصرة)، وكان تيزيني ينوي إصداره في 12مجلدا، صدر حينها مجلدان فقط ، وحسن حنفي في مشروعه: ( التراث والتجديد)، بأقسامه الثلاثة: موقفنا من التراث القديم، 8مجلدات، وموقفنا من التراث الغربي، 5مجلدات، و نظرية التفسير، 3مجلدات، وحسين مروة، في مشروعه: (النزعات المادية في الفلسفة الإسلامية، في مجلدين).
وقسم الأستاذ بريش حواره النقدي مع المشروع الفكري للأستاذ محمد أركون إلى أربعة نقط، كالآتي :
1- من هو محمد أركون؟
2- لماذا محمد أركون؟
3- ماذا يريد محمد أركون؟
4- أركونيات
وقدم الأستاذ بريش تعريفا تفصيليا دقيقا بالأستاذ أركون، ينبئ عن معرفة دقيقة بالشخص وبالمشروع؛ بمساره التكوني والعلمي، وبدراسته في الجزائر، (في تيزي وزو، وفي وهران، وفي الجزائر العاصمة) ، وفي فرنسا، وعلاقته بطلبته، وبأساتذته، وبمجموعة مشهورة من المستشرقين؛ مثل: ماريو أروزيو وموريس بورمانس، وبشواهده العلمية، وبأطروحاته الجامعية، والمشرفين عليها، وبمناقشيها، وتاريخ محطاته الجامعية والتدريسية. وبمؤلفاته الفكرية، المعروف منها وغير المعروف، و بتفاصيلها؛ من حيث أفكارها، وتاريخ كتابتها، ولغتها الأصلية، والمترجم منها، وعلاقات المكتوب، بالمحاضرات، والحوارات، والتصريحات التي كان يدلي بها الأستاذ أركون. كما وقف على الكثير مما ترجمه الأستاذ أركون نفسه، من أبحاث ودراسات لمجموعة من المستشرقين، وتقديمه لأبحاثهم. وذكر الأستاذ بريش أبحاثا طريفة وغير معروفة للأستاذ أركون ، مثل: (كيف نقرأ القرآن؟ )/1970، و: ( قراءات للقرآن)،بالفرنسية/1982، و(الإسلام: الأمس والغد)، بالمشاركة مع لويس غاردي، بالفرنسية ، و( الإسلام: دين ودنيا)، بالمشاركة مع: ماريو أروزيو وموريس بورمانس، و( قراءة الفاتحة) /1974، و(قراءة سورة الكهف) /1980، و( هل يمكن الكلام عن العجيب في القرآن؟)/1974، و( مدخل لدراسة العلاقة بين الإسلام والسياسة)/1979، و(الحج في الفكر الإسلامي)/ 1977.
وتتبع الأستاذ بريش المنابر، المجلات والدوريات، المغربية والعربية على الخصوص التي تنشر أبحاث الأستاذ أركون، أو تنقل تصريحاته، أو تغطي أنشطته الفكرية، في الغرب، أوروبا وأمريكا، أو في العالم العربي والإسلامي. وكان يقارن بين كتابات أركون في مؤلفاته وبين ماتنقله الدوريات، ووجد تحريفات كثيرة، وإساءة بالغة /أو قل: خيانة المتن الأصلي والحقيقي لأركون! خصوصا في الدوريات العربية، مثل:( مواقف، والفكر العربي المعاصر، والوحدة، والثقافة الجديدة، وأنفاس…)
وأما لماذا الأستاذ أركون بالضبط؟ فيجيبنا الأستاذ بريش بأن مشروع الأستاذ أركون يمكن تلخيصه في أهداف نبيلة سعى إلى تحقيقها؛ أهداف تنطلق من الإدراك الجيد للتحولات الجذرية في الفكر العالمي المعاصر منذ خمسينيات القرن الماضي؛ تحولات حصلة في أدوات إنتاج المعرفة، في حقول: اللسانيات، والتاريخ، والأنثروبولوجيا، والفلسفة، مما جعله متحمسا إلى استثمار منجزها لتخصيب حقل الدراسات الإسلامية، من خلال استعارة مفاهيم هذه الحقول، واستثمارها في القراءة الجديدة للحدث القرآني. ولذلك تصادف القارئ في نص أركون شخصيات: ماركس، ولفي ستراوس، وباشلار، وألتوسير، وبارت، وفوكو، وبالاندي، وبروديل، وريني جيرار، ودريدا، وبورديو، وغيرهم كثير. كما تصادفه مفاهيم تفسيرية/ ومفاتيح في الأنساق المعرفية الجديدة؛ مثل: رأس المال الرمزي ، والزمن الطويل، والتقطيع الميثي ، والتاريخي، والخطاب السيميائي، واللامفكر فيه، والمنسي ، والمكبوت، والبنية العميقة، والإبستيمي، وغيرها كثير. ويرى الأستاذ بريش ان استدعاء الأستاذ أركون لهذا الجهاز المفاهيمي ، مع افتراض حسن النية، فيه قدر كبير من المغامرة؛ فهي مفاهيم وهي سلط معرفية أيضا ، لن تفيد فقط في تدشين عهد جديد من التعامل مع الإسلام ومع الظاهرة الإسلامية، وكذا في إغناء حقل دراسة الإسلام، بل قد تكون سببا في أسر الإسلام برمته، وفي احتجاز عقل المسلم داخل صندوق حديدي مقفل بالأدوات والمفاهيم، ومحاصر بالسلط المعرفية، وإكراهات التحيزات الغربية. وهذا ماوقع فيه الأستاذ أركون بالضبط؛ فرسم حدودا لبحثه واجتهاده ، ووضع منطلقات نظرية أشبه بأقفال الصندوق الحديدي؛ ومنها، على سبيل التمثيل:
– ليس هناك حقيقة فوق التاريخ.
– ترتبط الحقيقة بالسلطة، وتتولد من الصراع والتوتر.
– تتجسد الحقيقة وتترسخ بواسطة الإنسان، وبواسطة الذكاء والإرادة والقدرة فقط.
ويذهب الأستاذ بريش إلى أن الخلفية المنهجية والمفاهيمية والنظرية للأستاذ أركون قد تجاهلت مكونات المجال التداولي للمجتمعات العربية الإسلامية، وكذا خصائص المعرفة الإسلامية، و( كولونيالية المعرفة الغربية)، وارتباط معرفة الغرب برغبته في السيطرة، ثم إن أطروحته لم تكن بعيدة عما طرحه كثير من المستشرقين، من الفرنسيين خصوصا، وما يطرحه المستشرقون الجدد تحديدا، في التعامل مع المعرفة والتراث الإسلاميين. لذلك قد يكون الأستاذ أركون، أو قد أريد له تدقيقا، أن يحمل هذا المشروع، وأن يبشر به في الفضاء العربي والإسلامي. لذلك اعتبره الأستاذ بريشا نموذجا مثاليا للدراسة والاشتباك والحوار، للأسباب الإضافية التالية:
1- كان الأستاذ أركون من المشاركين الفاعلين في إعداد مشروع ( الخطة الشاملة للثقافة العربية) الذي أشرفت عليه المنظمة العربية للتربية والثقافة التابعة لجامعة الدول العربية، خصوصا في مايتعلق بإحياء علوم الدين وتجديد الفكر الإسلامي.
2- حضوره البارز في المؤتمرات الفكرية والثقافية في الغرب باعتباره ممثلا للأمة الإسلامية. ومن الأمثلة التي أوردها الأستاذ بريش مشاركة الأستاذ أركون في الملتقى الثامن عشر للمثقفين اليهود الناطقين بالفرنسية تحت عنوان: ( الأمة الإسلامية) الذي نظمه (المجمع اليهودي الدولي بباريس) مابين 27و29 نوفمبر1977، والتاريخ له دلالة خاصة؛ فهو بعد أسبوع واحد من زيارة أنور السادات إلى القدس. وكان عنوان مداخلة الأستاذ أركون:( الإسلام ومشاكل التنمية). وقد نشر المجمع الدولي اليهودي أعمال الملتقى كاملة.
3- تكثيف الإعلام الفرنسي لفرض الأستاذ أركون باعتباره مجددا للقرن. وهو تكثيف احتفت به مجلات مغربية وعربية وانخرطت فيه؛ مثل: (الثقافة الجديدة)، و(الزمان المغربي)، ومجلة (لاماليف)، ومجلة ( المشروع)، تصدر عن لجنة الثقافات والدراسات التابعة للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. ومجلة(15-21 ،مجلة الفكر الإسلامي المستقبلي) تصدر عن تيار الإسلاميين التقدميين بتونس، ومجلة(الفكر العربي المعاصر) ، تصدر عن مركز الإنماء القومي بيروت، ومجلة( الكتاب العربي) ، تصدر عن الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب بدمشق، ومجلة( مواقف)، تصدر من بيروت، ومجلة( الباحث) ،تصدر من باريس، ومجلة (الفكر العربي)، تصدر عن معهد الإنماء العربي ببيروت، ومجلة(الوحدة)، تصدر عن المجلس القومي للثقافة العربية، وغيرها. فقد خصصت هذه المجلات في المغرب وفي خارجه حيزا كبيرا للتعريف بالأستاذ أركون وبمشروعه.
4- النشاط المكثف للأستاذ أركون عند زيارته المغرب سنة 1984، ومارافقها من دعاية مكثفة في الإعلام العمومي المغربي، وفي الإعلام الفرنسي. وقد حاضر في الرباط وفي الدارالبيضاء، بدعوة من وزارة الثقافة، وأجرى حوارات مع جرائد مغربية؛ مثل: أنوال، والعلم، والبلاغ ، وغيرها…
5- تهجمه على جارودي. فقد تهجم على روجي جارودي وعلى موريس بوكاي واتهمهما بجهل الإسلام.
6- موقفه السلبي من الحملة الإعلامية والأمنية على المسلمين في الغرب.
7- تزكية الدكتور صبحي الصالح لأعماله . فقد أثنى على بحثه:( التراث:محتواه، وهويته، ايجابيات وسلبياته )، في مؤتمر القاهرة، حول التراث، من تنظيم: مركز دراسات الوحدة العربية، سنة1984.