الكورونا والحركة نحو الإنسانية أو الكورونا لا تقتل على الهوية
“الأزمات القاسية مثل حمامات السباحة الباردة؛علينا دخولها والخروج منها بسرعة كبيرة” نيتشه
يعترض كل منا خطابان في مقاربة جائحة الكورونا، خطاب يحتمي تحت مطرية الوقاية وتفاصيلها التحسيسية الطبية والميديانية، يرافقها فلكلور شعبي في ثنائيتين، حماية غذائية مزعومة ( الثوم والبصل والزنجبيل…) وحماية روحية بكثافة الأدعية المباشرة وحتى الالكترونية تصل إلى حد التواكل لا التوكل وهو خطاب يخترق كافة الفئات دون استثناء تقريبا. أما الخطاب الثاني فهو استشرافي لما بعد الكورونا، ويفكر فيما بعد نهاية هذه الجائحة الوبائية والانتصار عليها. بين نقطة بروز الفيروس أو انفلاته/ توظيفه ونقطة نهاية الفاجعة تطرح أسئلة، أن نتأمل في هذا الوباء/ الكارثة، من جهة أولى ما يبذله العلماء من سباق حثيث لاكتشاف الدواء المعالج وإسدال الستار عن هذا الحدث/ الفاجعة، وما يتيحه من مساحات تدبر وتفلسف وتفكيك واستعمال “المعول” بعبارة أحد الأصدقاء في مفاهيم نتعايش معها ويبدو أنه آن الأوان للتحرر من سلاسلها.
فهذا الوباء البغيض والعدو الإنساني، ماذا لو نظرنا من ثقب الكورونا وتحولت من نقمة إلى نعمة، وفرصة، إن الأوبئة “فرصة فردية” و”فرصة مجتمعية” و”فرصة للإنسانية” و”فرصة تاريخية”. على كل منا الالتزام بالقرار الصحي وملازمة البيوت والاستمرار في المقاومتين الإيجابية والسلبية، مقاومة مسلحة بالأدوات الطبية والصحية وقرارات العقل السياسي، ومقاومة سلبية لا تختلف عن الغاندية في جدواها ونتائجها الوقائية. ستكون فرصة تاريخية ومساحة لتدبر ما نعيشه، بخوفنا وفزعنا وما فرض على الناس من اجراءات وقائية وتوصيات حمائية، وتحفزنا للسؤال عن الموت والحياة والعلم والقيم والإنسان والاجتماع البشري.
الكورونا الوباء البغيض والعدو الإنساني، حصد ويستمر في حصد أرواح ألاف البشر، قد يكون الرقم أدنى من قتلى حوادث السيارات ( 55 مليون سنويا) أو التدخين يقتل 8 ملايين سنويا، إلا أنه عدو يهاجمنا من كل حدب وصوب، لم نختره مثل التدخين أو السياقة، ولا نستطيع رؤية الفيروس ولا سماعه، بل لعله في جسمنا أو في جسم أحبائنا، هذا ما يجعل منسوب التوتر يرتفع، ونعجز عن مواجهته وجها لوجه، وقد يوجد في كل مقبض أو في كل باب وفي كل طاولة. زعزع هذا الخوف الشديد من العدوى ” أمننا الأنطولوجي” بعبارة أنطوني غيدنس، ورج طقوسنا اليومية وضاعف من حالات اغترابنا.
ولكن ماذا لو نظرنا من ثقب ” الكوفيد19″ وحولناه من نقمة إلى نعمة، وفرصة، إن الأوبئة “فرصة فردية” و”فرصة مجتمعية” و”فرصة للإنسانية” و”فرصة تاريخية”. ومع ذلك علينا الالتزام بالقرار الصحي وملازمة البيوت والاستمرار في المقاومتين الايجابية والسلبية، مقاومة إيجابية مسلحة بأدوات التنظيف (الصابون وغيره من مواد) والإصغاء للنصائح الطبية والصحية وتنفيذ قرارات العقل السياسي، ومقاومة سلبية لا تختلف عن الغاندية في جدواها ونتائجها الوقائية بممارسة الدرجة الصفر من الحركة.
الكورونا وباء بدني وهو نافذة للتأمل، في التفاصيل كما في المبادئ، من غسل اليدين بالماء والصابون وطقوس النظافة الجسمية والبيئية، إن الأزمات تنسج سلسلة القيم. يشمل التأمل الأول الفردية بالاشتغال على الذات وهندستها من جديد وتجفيف أدرانها وتعضيد بناها وتجفيف منابت أنانيتها وتورم الايغو(Ego) والتحليق عاليا مع السحب العابرة وحتى مع الصقور فوق الجبال، فرز ذاتي من أجل إيجابية الداخل الإنساني واكتشاف ما تختزنه من تسامح وعفو وغفران ورحمة وتنوع واستقلالية وتضامن وروابط تغير الأنماط الشخصية وملامحها. وتهم الفرد/ المواطن كما تستفز السياسي وأصحاب الأموال والأقلام والمنابر ، لنزع الأقنعة الوظيفية والأدوار المجتمعية والالتقاء في دروب لائقة وشريفة حول الحقيقة التي لا حقيقة قبلها أو بعدها” أنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه” لا بمعناها الديني التوظيفي في درجته الدنيا وإنما بحرارتها الروحية وأخلاقية الطهارة والنقاوة دون وسائط حزبية أو فئوية أو رايات الاحتكار المتراكمة.
وهي “فرصة” لإعادة أو قراءة متمعنة وبطعم جديد لقصّة “الطاعون” “لألبار كامو” وفهم تشابك الوباء والاستبداد، وقصّة “الحب في زمن الكوليرا” “لغابريال غارسيا ماركيز” وأفلام حول فيروسات (الأوبئة- الفساد- الإبادات الجماعية- وحشية الاستعمار…)، إنها “نعمة” تضاف لطقوس النظافة المكثفة والطهارة البدنية والروحية ولحظات ترتيب الذات وتوجيه اهتماماتنا ومنحنا قطعة من الزمن الشخصي للتأمل والمراجعة والنقد الذاتي والتخطيط والبرمجة، وتحويل الزمن السائل إلى زمن “ينفع” و “وقت مفيد” ومرتب ومهيكل.
يطرح التأمل الثاني أن الكورونا كشفت زيف الجغرافيا والحدود والفواصل والستائر الجمركية وزيف المعابر والعساكر والأوراق، فقد تخترق من رحلة ما أو لمسة أو قبلة عفوية وتفتك بالإنسان/المجتمع دون فرز وتقتله دون التثبت في جنسيته أو جواز سفره أو هويته. فالفيروس لا يميز بين سكان الشمال أو الجنوب أو بين مواطني الغرب أو الشرق، تمنحنا درس نبذ التمييز والتفرقة والإقصاء…بما ييسر للمجتمعات أن تعيد اكتشاف بوصلتها في خضم الفوضة العارمة، ومواجهتها بتوضيب الأدوار والاعتراف المتبادل وشذب علاقات المركز والأطراف وإزاحة معايير المقدسات ونمطية القيم من أجل هندسة جديدة للانتظام الاجتماعي، وتلقيح رحم المجتمعات/ مجتمعنا ليرنو نحو الغناء ويتعالى عن الطبقية والنفعية والصراعية والاحتماء بمتاريس الوصم والفرز والتصنيفات الاجتماعية أو الجهوية أو العشائرية أو العقائدية والجغرافية.
وتحرير “التابع” بعبارة المفكر الهندي رانجيت غوها أما آن للتابع أن يتكلم وأن يتحرر؟ أما آن لسكان الأطراف تجاوز اغتراب التاريخ والجغرافيا؟ أما آن للجراح أن تلتئم من الكولونيالية وثنائيات الشمال/ الجنوب والشرق/ الغرب والعوالم الثلاث، بدت الآن عالم واحد أو أشلاء جغرافيا متناثرة، إنها صدمة قاسية وقد تكون أقسى مما كنا نتصور، أرصدتنا الإنسانية التي تآكلت وآدميتنا المنفلتة، ولعله انتقام الطبيعة، في مراجعة مفهوم “التقدم” وإيديولوجية انتقدت فلسفيا وتمارس فعليا، إنه صراع محموم من أجل الثروة . هل هي نهاية التاريخ لا بانتهاء الصراع وسيادة الليبرالية، التي تأكل أبناءها وشيوخها الذين بنوا “مجد” أوروبا وأمريكا من عرقهم، حين نصل إلى الطب الحربي نعلم أننا بلغنا ذروة قبحنا الإنساني.
ونتوقف في التأمل الثالث حول دلالات تهاوي عدد مهم من البراديغمات أو دخلت هي ذاتها في نوع من الحجر الأداتي والتحليلي (العقم) شأن النزوعات الهووية والحداثوية، توارت خلف الفزع والكارثة والعدمية وكمنت في جحورها/ عرينها (لا فرق في الراهن ما بين أن تكون فأرا أو أن تكون أسدا). ما يثلج الصدر تواتر الأخبار الايجابية عن نزوعات الخير الكامل في مواجهة الشر المطلق، من مبادرات أصحاب القلب الكبير والحكمة واعتراف بلباب الإنسانية ورحيق الكونية. الكورونا ليس “فيروس” فحسب وإنما “مفهوم” يتشكل ويشكل، لا ينفصل الجسم اللامرئي والمخفي عن تشبيك اللامرئي والمخفي، تنتج لحظات تفكير/ تأمل نعيش من خلالها فينومينولوجيا ما معنى أن أعيش؟ ما معنة أن أحيا؟ ما هي قيمي؟ ما معنى أني إنسان؟ تتجاوز معنى العقل إلى سؤال ما معنى الإنسانية؟ وما معنى البشرية؟ وما معنى الخصوصية والكونية؟ أمام ألاف الأموات التي حصدها “الفيروس” نطرح سؤالا هل نعيش فعلا الآن في عصر مستنير؟ ألم “يفضح” هشاشة الإنسانية ولزوجة الحداثة ووهم ما بعد الحداثة، مفاهيم المتعة التحليلية تتقلص لتبحث عن مفاهيم الجدوى الحمائية، ونحن لا نواجه الموت الفردي -وهو حق- بل نواجه الموت الحشودي والفناء الجماهيري، لحظة نوح دون سفينة.
ستسرع الكورونا صياغة حياتنا الاخلاقية وتقفز انسانيتنا من على ظهر المرض والوباء لإنتاج معنى وشذب أغصان الدلالات الفاسدة العالقة في سطح بشريتنا المشوهة، برزت وتبرز في الاستعمار وتقسيم الشعوب وقطع أوصال التواصل واغتصاب الجغرافيا والقارات وتدمير الثقافات ونهب الثروات وتسميم البيئة وفسخ الامتياز الأخلاقي، وترسيخ التفاوت الحضاري، وطمس الإنسانية والتنوير والنهضة.
إن حلحلة الهيمنة وانزياحها نحو السيطرة وتقطع سردية المرض تشمل الفردية لتنحو نحو الجماعية، وتنسج روحا جديدة وأقانيم وحدة آدمية أو الهجرة إلى لب الإنسانية الساكنة فينا. أمام الهجمة الشرسة للفيروس والأعداد الكبيرة من المصابين، من المجدي التعاطي مع عدوى المرض لا كفكرة عامة بل باعتبارها قوّة فاعلة وعنصر “تغيير” ميتافيزيقي ، العودة إلى المتعالي والمفارق والمتخفي لا في السماء وإنما في الأشياء، “فأينما تولوا وجوهكم فثمة الكورونا” و”هي أقرب إليكم من حبل الوريد” قد تكون في أي جزيء من الأشياء التي قد تفتك بنا. سينتصر الإنسان على الكورونا وسيصنع الأدوية والتلاقيح ويرفع رايات النصر بلا شك بتظافر وظيفي بين العقل الطبي والعقل الجماعي والعقل التخطيطي والاعتراف المتبادل بالأدوار وأهميته في هندسة الوجود الاجتماعي.
لا معنى للدولة بدت كخيم خاوية إلا من معنى العنف القانوني، دول وأساطيل وجيوش مرسومة في الرمال، فالمبتغى انتصار الوعي الجماعي والبشري والانتقال من المجتمعية إلى الإنسانية لا الإنسانوية المحلقة والمتبخرة حقيقة، بل إيلاء الأولوية المطلقة للتربية والصحة. والتحرر من الاغتراب والعودة الى جوهر الإنسان، والانتقال من التصنيف الطبقي الى رص التصنيفات ورتقها . إن الإنسان بوصفه هذا الإنسان ليس هذا الإنسان المفرد وحده، فهو يقف بجانب بشر آخرين ويغدو واحدا من الحشد. والتحرر من الوعي الشقي الذي يسكن كل فرد وكل مجتمع، وتجاهل الآخر والعودة الغنية إلى الغيرية. يكون بنقد المركزية الأوروبية والعودة إلى مركزية الإنسان، ونقد مزدوج، “خير أمة أخرجت للناس” هي الأمة التي تقاوم الفناء ولا تستسلم، تحارب العدم ولا تتلاشى، وتتجاوز وعيها الغامض، إنها الأمة التي تخدم الإنسانية وتنافح عنها. وتستلهم من قعر الوباء، معايير نهضتها وصمودها ومدها يد المساعدة للآخرين.
الحرية ليست الصندوق بل الدولة بالمعنى الهيغلي بما هي تجسيد للعقل الكلي، وتغذية لفكرة التكاتف والتعاضد، و”الجسد الواحد”، وأن أفيون الشعوب والمجتمعات هو الكسل و اللا عمل و اللا اجتهاد والعطالة في اليد وفي التفكير وفي الخيال وفي جفاف الوجدان والعاطفة، هذه العناصر هي التي تتيح لنا أهلية الدخول الى عالم البشر. تبا لنا ما لم نصنع من محنة الفيروس ومن فزعنا وجزعنا ورعبنا طاقة ننسج منها عودتنا الواثقة إلى الإنسانية.
إن سمفونية الحياة المقاومة وصخبها وهمساتها، وابتكاراتها وانضباطنا داخلها، لا تنفصل فيها الوطنية عن الإنسانية جمعاء. لا أدري لماذا أستعيد شكل إنسان ما قبل التاريخ وصورته وهو يوجه العواصف والأعاصير والحيوانات المفترسة وخوفه حرك التاريخ وأنتج الثقافة وبنى الحضارات وأنتج الأدوات الانتاج وساهم في ارتقاء البشرية وأسس الدول ونوع السيطرة، إن لحظة قسوة الكورونا مثل لحظة الحاجة إلى اكتشاف النار/ الحديد/ العجلة/ البخار/ النانو… تسعى إلى مواجهة الإحراجات واختراقها شأن سلعنة الصحة والتعليم، يجعل من النقمة قد تتحول إلى نعمة أو التحرك نحو الانسانية. إنها وضعية بيوسياسية، يوضحها كتاب (comment tout peut s’effondrer ?) لكل من (pablo Servigne et Raphael Stevens) يتناولا فكرة (collapsologie) أي امكانية انهيار حضارتنا الإنسانية وسقوطها كقطع الدومينو، يمكن أن تتم في لمح البصر، ليس نتاج هجوم الزمبي ولا الكتب المقدسة وإنما حين لا تلبي الحد الأدنى من الحاجيات لأغلبية السكان وتقديم الخدمات، ونهاية مجتمع الوفرة ونمو اللا محدود. و تعود هذه الفكرة إلى سنة 1972 في تقرير (Meadows) بعنوان (the limits to Growth) التي تمت صياغته من قبل الباحثين في نادي روما الذي نبه إلى المخاطر المحدقة، لا نعلم من سيطلق البداية انهيار البورصة أم كارثة طبيعية أم انهيار التنوع البيئي، أو كارثة فيروسية. لذا يحلل (Frédéric Keck) في مؤلفه (Les sentinelles des pandémies) كيف تتفاعل مجتمعاتنا مع الأوبئة، وأنه عوض الاستسلام إلى الخوف الشديد، يدعونا إلى التفكير في العولمة وعلاقتنا بالطبيعة. فالأوبئة تقلب المجتمعات لا لأنها تقتل الأفراد بالآلاف وإنما لأن العدوى تحدث الفوضى والاضطراب والحذر الشديد، علينا الاستعداد للعيش في هذه العواصف، وتنمية مقاومة المجتمعات ومناعتها. وتتطلب “لوجيسيال” سياسي عالمي جديد، كما يذكر مارسال غوشييه خصوصا وأن الأزمة كشفت أن الواقع عبارة عن توازن لا يستقر أبدا، وأنها تعري تداعيات مغلفة كالدمى الروسية.
إنها تحولات لا ينبغي أن نرى فيها نهاية التاريخ ولا أن نجعل منها مقبرة الأمل، بل فحص العمق والسطح أو الهام والمبتذل، وخلق مجالات جديدة للتفكير والتعبير والتواصل، وتنظيف الجسم مدخل لتنظيف الجسد، وأن الصابون ليس مجرد شئ أو أداة بل أصبح طقس من طقوس إنقاذ الحياة الفردية والمجتمعية واستمرارها، عقلنة النظافة من عقلنة المجتمع، وعقلنة المجتمع من عقلنة البقاء في البيت، “فالبيت جسد لا عضوي للإنسان” كما يقول ماركس.