المدياتُ التي ينجزُ فيها الدينُ وعودَه
في سياقِ التفسير الذي اقترحتُه للدين في كتابي الماضي: “الدين والظمأ الأنطولوجي”، وشرحتُه في كتابي الجديد”الدين والاغتراب الميتافيزيقي”، خلصتُ إلى أن الدينَ حاجةٌ وجودية، بوصفه مكوّنًا عميقًا للهوية الوجوديةللكائن البشري. الدينُ نداءٌينبثق من أعماقِ الكائن البشري. الدينُكما أفهمُهُ: “نداءالكينونة”.
ينجزُ الدينُ وعودَه بوصفه حاجة وجودية للإنسان،أي أن الكائنَ البشري هو المخلوقُ الوحيد الذي لا يكتفي بوجودِه الخاص، لذلك يعمل هذا الكائنُ على تمديدِ وجودِه وتوسعتِه وإثرائِه. وهنا يقوم الدينُ بإغناءِ هذا الوجودِ الفقير للانسان عبر الإيمانِ، وبناءِ الحياةِ الروحية بالسفرِ الوجودي إلى الحقّ الذي يثري الكينونةَ ويكرّسها.وهذا معنى كون الدين حاجةً وجودية. إن كان الدينُ كذلك،فلابدّ من أن تظهرَ تمثلاتُه في حياة الفرد والمجتمع “الاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية، والسياسية…”. ويمكننا التعرف على المستويات التي تتجلى فيها هذه التمثلات في حياةالإنسان، وهي:
1 – المستوى الثقافي: يظهر أثرُالدين في ثقافاتِ المجتمعات بدرجات متفاوتة، إذ يمكننا أن نعثرَ على آثارِ الدين الظاهرةِ والمُضمَرة في أشكالِ الإبداعِ الفني والأدبي المختلفة، وفي التعبيرِ الجمالي، وفي أنماطِ التفكير والإنتاج الثقافي المتنوعة. الدياناتُ مفتاحُدراسةِ شخصية المجتمعات، وبوصلةِ قراءة خارطة الثقافات، والشفرةِ الكاشفة عن كيفيةِ ولادة وتطور كلِّ مجتمعٍ وثقافتِه. فلا يمكن دراسةُ ثقافة مجتمع من دون التعرف على الحبل السريّ لهذه الثقافة، الذي يرتسم في ديانتِه وآلهتِه ومقدّساتِه. تتنوع وتتعدد الثقافات بتعدد وتنوع الديانات واللغات، ففي العالم اليوم 4200 ديانة مع مذاهبها. وتتشكل أنماطُ التدين في الحياة الفردية والمجتمعية على وفق الجغرافيا الأثنية والثقافية واللغوية والاقتصادية والسياسية للمجتمع. فمثلاً في العالم اليوم 6909 لغة، كما تقول الانثروبولوجيا، منها 1700 لغة لا يتحدث كلّ منها أكثر من 1000 شخص[1].
2- المستوى السلوكي: يتنوّع أثرُ الدين في السلوك على وفقِ تنوّعِ الأفرادِ والمجتمعات واختلافِها. فقد يكون حضورُه طاغياً في الأقوال والأفعال والمواقف، أو مضمراً مستتراً، عندما يشكّل أحدَ عناصر الإطار المرجعي للتفكير والتعبير والفعل.
ويظهر أثرُ الدين في تكريسِ القيم الأخلاقية، وتنميةِ المسؤولية الإنسانية حيالَ الذات والآخر؛ ذلك أن بناءَ الحياة الأخلاقية في مجتمع ديني يستقيمن الحياة الروحية، ومن دونِ الأساسِ الروحي في مثل هذا المجتمع لا تترسّخ الحياةُ الأخلاقيةُ ولا يستفيق الضميرُ الأخلاقي ويتجذر. ومع بناءِ الحياةِ الروحية والأخلاقية يتجلى الأثرُ الفاعلُ للدين بأجملِ صورِه في حياةِ الفرد والجماعة.
تديّن عميق وتديّن شكلي
في ضوء ذلك يتحقّق التديّنُفي حياة الانسان على مستويين،وهما:
- تديّن روحاني أخلاقي: وأعني به ذلك النمطَ من التدين العميق الذي تمتلئ به الروح، ويروي ظمأ الكائن البشري للمقدّس، فينشغل التديّنُ بإشباع الحاجة الوجودية للكائن البشري، وإشباعها يعمل على بناء الحياة الروحية، وإيقاظ الضمير الأخلاقي. وتلك وظيفةُ الدين العظمى في بناءِ شخصية الفرد وتمتين بنية المجتمع. إرواءُ ظمأ الكائن البشري للمقدّس يشكّل بنيةً تحتيةً متينةً لحياةٍ روحية وأخلاقية مُلهمة للفرد والمجتمع، بنية ترتكز عليها العلاقاتُ الاجتماعية الصالحة، وتساعدُ على تطبيق نظمِ وقوانينِ الإنتاجِ والتوزيعِ والاستهلاك، وتحفيزِ النشاط الاقتصادي السليم، وخلقِ بيئةٍ مناسبة للثقافة والآداب والفنون. وفي ظلّ حياةٍ روحية سليمة وضميرٍ أخلاقي يقظ يمكن إعدادُ إنسان مسؤول حيالَ الوطن، وأكثر وفاء للنظام العام، وأشدّ التزاماً بتطبيق القوانين.
وهذا المستوى من التديّن الروحاني الأخلاقي ينشد إنجازَ:
١- حياة روحية مُلهمة.
٢- حياة أخلاقية مُلهمة.
٣- تذوق لجماليات العالَم.
كلّما تكرّس هذا المستوى من التدين لدى إنسان نجده لا ينشغل كثيراً بالإعلان عن أقوالِه وأفعالِه للناس، ليس لأنه لا يحتاج للاعتراف الذي يحتاجه كلُّ إنسان بوصف الاعتراف أحد منابع المعنى في الحياة، فضلاً عن أنه يمثّل حاجةً وحافزاً مهمّاً لكلّ فعلٍ وقولٍ في حياةِ الكائن البشري، بل لأن احتياجَ الإنسان هنا للاعترافيقلّ، لأنه يصل الى محطاتٍ في سفرِهِ الوجودي إلى الحق تشكّل أغزرَ منبع للمعنى والاعترافِ به، وكلّما توغلَ الإنسان في سفره إلى الحقّ تسامى في عوالم المعنى، وصارت شخصيتُهُ مُلهمةً روحياً ومُشرقةً أخلاقياً. فيُبجِّل الناسُ في الأرض مثل هذه الشخصية ويحترمونها.
تحدثتُ عن هذا التدين في كتابي الأخير: “الدين والظمأ الأنطولوجي”، وفي كتابي الجديد “الدين والاغتراب الميتافيزيقي”المزيدُمن الشرحِ لتفسير هذا النمط من التدين وضرورة إحيائه في مجتمعاتنا.
2- تديّن ظاهري شكلي: وأعني به ذلك النمط السطحي المجوّف من التدين، المفرّغ من نبض الحياة الروحية ووهج الضمير الأخلاقي، الذي يضع معاييرَ ظاهرية شكلية تُقاس درجةُ التدين بمدى الالتزام بها، بغضّ النظر عن بناءِ الكيان الداخلي للمتدين.
وقد انتهى النموذجُ الذي صنعه هذا المفهومُ للتدين الى المبالغة في التشديد على السلوك الظاهري للمتديّن، وأسرف كثيراً بالاهتمام بالشعائر والطقوس والاحتفالات الجماعية، وانشغلَ بشكلِ اللباس، ولغةِ الجسد، وتعبيراتِ الوجه، ونوعِ الحركة والمشي، ونبرة الصوت. ما دعى أكثرَ المتديّنين بهذا النمط من التديّن لصناعة جدارٍ سميك بين شخصيته الحقيقية في باطنه، وبين ما يُظهره للخارج من سلوك، وأفضى ذلك إلى انشطار الشخصية إلى كيانين: خارجي لا يشبه الداخلي، وداخلي لا يشبه الخارجي، وربما حاول البعضُ أن يظهر بملامح غامضة، بغية إخفاء شخصيته الباطنيةوتلبيسها. وربما أسرف بعضٌ آخر بالتمثيل بغية إخفاء أكثر ملامح شخصيته، حتى صار لفرط التمثيل بلا ملامح. تعرفتُ في حياتي على شباب أصبحوا متدينين بهذا النمط من التدين، وعندما تدينوا افتقدوا بالتدريج الكثيرَ من وضوحهم وبساطتهم وعفويتهم وتلقائيتهم ومباشرتهم في التعبير عن أنفسهم. بعد أن فرضتْ عليهم بيئةُ التدين الشكلي محاكاتَها بكلّ ما يتفشى بها من تمثيل زائف.
وصار همُّ المتديّن المزمنُ إيصالَ رسالة للجماعة التي ينتمي إليها تعلن تديّنَه وتقواه وورعه. لذلك تجده حتى لو مارس عبادةً في السرّ كنافلة الليل يحرص على إفشائها وترويجها. ولو تطوّع بعمل خيري، يسلك مختلفَ الطرق للإعلانِ عن عمله، وإن كان ذلك الإعلانُ مذموماً في بعض الموارد في الشريعة، لأن كلَّ ما ينشده المتديّنُ الشكلي من فعل الخير هو إبلاغُ الآخرين. ويرمي المتديّنُ من الإعلانِ لجماعته عن أنه متديّنٌ الى الفوزِ باعتراف الجماعة وثقتِها. وهو رأس المال الرمزي المهم الذي يحرص على امتلاكه، كي يوظفه في تعزيزِ نفوذه الاجتماعي، وتسويقِ شخصيته للاستحواذ على مواقع ومكاسب يسعي إليها في المجتمع المتدين.
وأظن أن هذاالضربَالمجوّف للتديّن نشأ في قصور الخلفاء والسلاطين في عالَم الإسلام، ثم تسرّب بالتدريج إلى مجالاتٍ أخرى في الاجتماع الإسلامي. ومن قبله وُلدوترعرع في دولةِ الكهنوت الكنسي في أوروبا العصور الوسطى.
وطالما تقمّص هذا الضربَ من التديّن التجّارُ ورجالُ الأعمال وكلُّ من يسوّق البضائعَ في الأسواق، والسياسيون ورجالُ الحكم في مجتمع ديني. ويتغوّل هذا التديّنُ عادةً في مجتمعات تعتمده معياراً في التوثيقِ والتصديقِ في المعاشِ والمعادِ.
ويرادفُ التديّنَ المجوّف أحياناً ازدواجيةٌ ونفاقٌ سلوكي، وادعاءاتٌ ومزاعم، وحيلٌ فقهية، وتوريةٌ، وإظهارُ الحياءِ والعفّة والتواضع المصطَنع، وكثرةُ الكلام في الدين والفقه، والجدلُ العقيم والثرثرةُ في قضايا دينية هامشية. وتظهرُ لدى بعض المتشبثين بهذا الضرب من التديّن حالاتٌ تشبه الوسواسَ القهري، أو قد تتطور إلى وسواس قهري[2]، مثل المبالغةِ في الاحتياطاتِ الفقهية في كلّ شيء، والإغراقِ في تكرار مملّ للغسل والوضوء والصلاة وغيرها من العبادات، والإلحاحِ في السؤال وطلب موقف الفقه لكلّ شيء يقوله أو يفعله المتديّن، وربما تتورم حالتُه فينتهي إلى مرضٍ نفسي واضطرابٍ ذهني وسلوكي.
لذلك لم يكن هذا الشكلُ من التديّن في يوم ما حلاً لمشكلة، بل كان وما زال، هو المشكلة، فكيف نترقب منه أن يكون عاملاً مُلهماً في بناء دولة حديثة.
لقد تفشّى هذا الشكلُ من التديّن لدى الجماعاتِ الدينيةِ في نصفِ القرن الأخير، بعد أن غادروا المرحلةَ السريّةَ في عهد الأنظمةِ القمعيةِ، وتخلّصوا من بطش الحكّام المستبدين. وتفاقمَ التديّنُ المجوّف بشكل مخيف بعد تسلّم هذه الجماعات للسلطة.
المتديّنُ الذي ينخرطُ في هذا النمط من التديّن يهمّه التسويغُ الفقهي لفعلِه وقولِه، مهما كان أثرُه السلبي على حياتِه الروحية والأخلاقية ومعادِه ومصيرِه الأخروي، وإن كان سلوكُهُ مضرّاً بمصالحِ الناس ومعاشِهم، فهو يحرص جدّاً على أن يعثرَ على فقيه “وما أكثر من يدّعي الفقاهة اليوم”، يفتي له بجواز فعلِ أو قولِ ما يريده، وإن كان ذلك الفعلُ أو القول قبيحاً على وفق أحكامِ العقل الأخلاقي “العملي”، أو كان يهدم العمرانَ وعلى الضدّ من بناءِ الأوطان، أو كان ذلك الفعلُ أو القولُ يجرح الروحَ وينتهك الضميرَ الأخلاقي.
أتذكر أني ناقشتُ أحدَالقياديين في الجماعات الدينية، عندما كان يزوّر العملةَ العراقية في أحد البلدان، ويهرّبها بكميات كبيرة للعراق في سنوات الحصار في تسعينيات القرن الماضي، فقلت له: لماذا تفعل ذلك، أليست هذه جنايةً على شعبنا الجائع المنكوب؟
أجابني: لقد حصلتُ على فتوى بجواز ذلك من فقيه.
فقلت له: أنا خبيرٌ بالفقه، أمضيتُ حياتي في دراسته وتدريسه، وهذا فعلٌ تمقته كلُّ شرائع السماء والأرض. فأخذ يزايد ويتبجّح قائلاً: نحن نتمسّك بفتاوى الفقهاء، ولا نفعل ذلك اعتباطاً، وتزويرُ النقود واحدةٌ من الوسائل التي نقاوم بها نظامَ صدام حسين.
قلتُ له: أنا لا أعبأ بفقه لاأخلاقي يدمّر الأوطان.أنت لا تقاوم نظامَ صدام بفعلك هذا. أنت تحارب أهلَنا في العراق، وتعمل على الإجهازِ على شعبنا الجريح، لأنك تدمّر اقتصادَه عندما تغرق الأسواقَ بالعملة المزوّرة، وكأنك لا تدري أن التزويرَ يحرق العملةَ الوطنية، بل يحرق المواطنَ الذي تكتشف أجهزةُ أمن النظام تداولَه هذه العملة.
حاولت أن ألتمسَ دليلاً للفقيه الذي أشار إليه، على وفق منطقِ الاستدلالِ الفقهي المعروف على ذلك، فلم أجد لهذا الفعل اللاأخلاقي تسويغاً. وإن كنتُ أظن أن ذهنيةَ بعض الفقهاء تلجأ إلى العناوين الثانوية في مثل هذه الموارد، فتفتي لهذا المزوّر بالجوازِ، بعنوان إنهاكِ نظام صدام حسين الفاشي وتخليصِ الشعب العراقي منه.
شاهدتُ وأشاهدُ باستمرار في حياتي، ويشاهد الكثيرُ ممن عاش في مجتمعات دينية، أفعالاً يومية على نمط هذا التديّن الشكلي في سلوك ومواقف أكثر من نتعامل معهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] جاء ذلك في الموسوعة المسيحية العالمية، الصادرة عن جامعة أكسفورد، وكانت طبعتها الأولى من إعداد: ديفيد ب.باريت ونشرت في عام 1982.والطبعة الثانية، من إعداد: باريت وجورج توماس كوريان وتود جونسون، ونشرت في عام 2001.
[2] الوسواس القهري اضطراب نفسي يشعر فيه المصاب أنّ فكرة معيّنة تلازمه دائماً، وتحتلّ جزءًا من الوعي والشعور لديه، وذلك بشكلٍ قهري، أي أنّه لا يستطيع التخلّص أو الانفكاك منها، مثل الحاجة إلى تفقّد الأشياء بشكل مستمر، أو ممارسة عادات وطقوس بشكل متكرّر، أو أن تسيطر فكرة ما على الذهن بشكل لا يمكن التفكير بغيرها. كما يعرّف الوسواس القهري بأنّه فكر متسلّط وسلوك جبري يظهر بتكرار لدى الفرد، ويلازمه ويستحوذ عليه ولا يستطيع مقاومته، رغم وعيه بغرابته وعدم فائدته؛ ويشعر بالقلق والتوتر إذا قاوم ما توسوس به نفسه، ويشعر بإلحاح داخلي للقيام به. جيهان سيد بيومى القط. عمليات الممارسة في خدمة الفرد. حلوان – مصر: مكتبه دار السحاب، 2015، ص 179.