واقع الدرس الفلسفي في العراق
“واقع الدرس الفلسفي في العراق” [1]
تميز الدرسُ الفلسفي في الجامعة العراقية بالانفتاح على الفلسفة الغربية الحديثة والمعاصرة، والاهتمامِ بالفكر العربي الحديث والمعاصر. وامتاز مؤسّسو هذا الدرس، بتكوينِهم الأكاديمي الرصين في الجامعات الغربية العريقة، وتكوينِهم اللغوي المتعدد، مضافاً إلى خبرتهم وجدّيتهم في التفكير والتعليم والبحث الفلسفي. لكن فيما عدا جيل الرواد يفتقر معظمُ الدارسين من تلامذتهم والأجيال اللاحقة لتكوين لغوي متعدد، يمكّنهم من تلقي نصوص الفلاسفة الغربيين ومصطلحاتهم بلغاتها الأم: الألمانية والفرنسية والانجليزية.
وكان لريادة مجموعة من الأكاديميين أثر مهم في تأسيسِ الدرس الفلسفي في الجامعة العراقية، واتساعِ حضور التفكير والبحث والنقاش والكتابة في قضايا الفلسفة ومشكلاتها في الثقافة العراقية، خاصة ما يكتبه وينشره الجيلُ الجديد من تلامذتهم، ممن تحرروا من سطوة الأيديولوجيا على تفكيرهم.كما نقرأ ذلك في السنوات الأخيرة في كتابات جسورة لبعض الشباب من أساتذة الفلسفة، وما تعدنا به من تفكير عقلاني يتحرر من أسوار المعتقدات المغلقة.
سقط الدرسُ الفلسفي في الجامعات العراقية منذ سبعينيات القرن الماضي ضحيةَ حصار مارسته سلطةُ البعث على كل تفكير حر، ففرضت على الأساتذة مقررات، لا تخلو من مقولات هجينة مشبعة بأيديولوجيا تعصبية. وتسلطت عليهم عصابةٌ من تلامذتهم، تتعامل معهم باستعلاء متعجرف، بعد ان احتكر “الاتحادُ الوطني لطلبة العراق” الفضاءَ الجامعي. والاتحادُ منظمةٌ حزبية طلابية، أكثر منها مهنية، مهمتها التبعيث، وتفتيش المعتقدات، وغسل الأدمغة، وفرض رقابة أمنية صارمة على نشاطات التلامذة والأساتذة، وملاحقة وتقصي أنشطتهم العلمية وعلاقاتهم الاجتماعية. واستبعدت وزارةُ التعليم العالي والبحث العلمي في تلك المدة جماعةً من الأساتذة المعروفين بتكوينهم الأكاديمي الرصين، عندما أحالتهم على التقاعد قبل بلوغهم السن القانوني، فاضطروا للهجرة خارج الوطن.
واعتمدت الوزارة سياسة قبول في الدراسات العليا متعسفة، لا تكترث بموهبة التلميذ وعلاماته ورغبته كأساس في القبول، وانما وضعت بموازاتها لائحة شروط سياسية وأمنية، كالايمان بفكر حزب البعث، وعدم كون أحد أقارب التلميذ من الأموات أو الأحياء معارضًا للنظام.
وانتجت هذه السياسات التعليمية واقعا أضعف الدرس الفلسفي وعلوم الانسان والمجتمع في الجامعة العراقية، وبدد جهودًا مهمة أنجزها مؤسسوه. واثر ذلك تغلبت عدة مشكلات على الدرس الفلسفي وكل علوم الانسان والمجتمع في هذه الجامعة، وكان من أبرزها:
- مناهضة أيديولوجيا حزب البعث للفلسفة
الفلسفة وعلوم الانسان والمجتمع تقوّض الأيديولوجيا، بما تمنحه للدارس من مناهج ومفاهيم تفسيرية ونقدية، فتمكّن من يتعلمها أن يفضح تزوير الأيديولوجيا للواقع، ويفكّكّ المعتقدات المغلقة. أيديولوجيا حزب البعث كانت مناهضة لكل تفكير حر تنتجه الفلسفة خارج أنساقها المغلقة وأدبياتها الهشة وشعاراتها الصاخبة.
ومما يؤسف له أن الجامعة العراقية لم تتحرر كليًا من هذا الموقف حتى اليوم، فمازال أكثرُ وزراء التعليم العالي والبحث العلمي ورؤساء الجامعات من خارج تخصصات الفلسفة وعلوم الانسان والمجتمع، ومن الغريب أن هذه الوزارة منعت البعثات للجامعات العالمية في هذه التخصصات، بذريعة وفرة حملة الشهادات العليا فيها، على الرغم من علمها بافتقار الكثير من ذوي الألقاب العلمية للتأهيل الأكاديمي الجاد. وتفشت نظرة تبخيسية للفلسفة وعلوم الانسان والمجتمع، رسختها مواقفُ أكثر وزراء التعليم العالي، الذين اتخذوا قرارات تتعاطى مع هذه العلوم وكأنها فائضة عن الحاجة، وتمنع المتخصصين فيها من بعض المناصب القيادية الجامعية.
إن الموقف السلبي من الفلسفة وعلوم الانسان والمجتمع هو ضرب من مناهضة العقلانية النقدية، لأن هذه العلوم تتكفلُ تفسيرَ وفهمَ ونقدَ الظواهر المجتمعية المختلفة، وإرساء رؤى ومفاهيم حديثة للبناء والتنمية الشاملة. ولا يمكن تغيير المجتمع من دون تفسير علمي لما يتفشى فيه من ظواهر متنوعة وتحليلها ونقدها، واعادة بناء حياته الفكرية والأخلاقية والروحية.
العراقُ بحاجة ماسة الى الفلسفة وعلوم الانسان والمجتمع، اذ لا يمكن بناءُ البلدان من دون خبراء في هذه العلوم. ففي علوم الابدان يمكننا الاستعانة بخبراء من جنسيات مختلفة، لكن لا تكتملُ خبرةُ الباحث في علوم الانسان والمجتمع مالم يكن من داخل المجتمع المدروس.
من الضروري أن يتنبه وزراء التعليم العالي والمدراء وكل المسؤولين في هذه الوزارة إلى أن الغربَ الحديث لم يصنع نهضته إلّا عقلٌ فلسفي حديث، فوراءَ كل مكتشف واكتشاف في العلوم الطبيعية فيلسوفٌ وفلسفة. ليست العلومُ الطبيعية فقط هي من صنعت الغربَ الحديث، بل صنعت الفلسفةُ الحديثةُ عقلَه قبل ذلك، وهذا العقل هو الذي صنع العلومَ الطبيعية، وفعل الكثيرَ مما كان يعد مستحيلًا.
لقد وضع فرنسيسُ بيكون “1561-1626” منطقَ العقل الحديث، وأعاد تشكيله رينيه ديكارت “1596-1650” وغيره من فلاسفة الغرب. منطقُ هذا العقل هو الذي قاد نيوتن لاكتشاف الجاذبية وقوانينه الفيزيائية المعروفة، وهو المصباح الذي اهتدى به علماءُ الطبيعة في اكتشافاتهم المتنوعة.
ولا يمكننا إنكار العلاقة الجدلية والتأثير المتبادل بين الفلسفة والعلوم الطبيعية، إذ تركت بعضُ النظريات الحديثة في العلوم الطبيعية أثرها الواضح في التفكير الفلسفي. فمثلًا أفاد كانط من نظريات اسحاق نيوتن “1642-1727″، إلى الحد الذي بالغ أحدهم بوصف ذلك فقال: “لولا نيوتن لما كان كانط”. وهكذا كان لنظرية التطور لتشارلز داروين “1809-1882” أثرٌ واضحٌ في توجيه بوصلة بعض الاتجاهات في علوم الانسان والمجتمع.
كذلك لا يمكن إنكار العلاقة الجدلية والتأثير المتبادل بين الميتافيزيقا والعلوم الطبيعية، فكل منهما يؤثر في الآخر ويتأثر به، فقد شكّل علم الفلك الحديث منذ نيكولاس كوبرنيكوس “1473-1543″، والفيزياء الحديثة منذ اسحاق نيوتن، خلفيةَ بعض مقولات الميتافيزيقا واللاهوت الحديث في الغرب، وبالمقابل يمكن اكتشافُ أثرٍ لحضور الميتافيزيقا في الفيزياء الحديثة.
- سقوط جماعة من الباحثين في الفلسفة في فخ الأيديولوجيا
تارة يقع الدرس الفلسفي في الجامعة العراقية تحت سطوة الأيديولوجيا اليسارية، وأخرى القومية، وثالثة الاسلامية. فقد خضع الباحثون في الفلسفة لغوايات أيديولوجيا السلطة، وتشوهت كتاباتُهم بتزوير الأيديولوجيا لكل شيء، حتى أضحت هذه الكتابات ليست مفرغةً من أي مضمون فلسفي وحسب، بل هي الضدُّ للفلسفة.
الفلسفةُ معرفةٌ كونية، لا تتحيّز لمعتقد أو أيديولوجيا، وإلّا ستنفي ذاتَها إن تحيزت فاتخذت مرجعيةً لها من: المعتقد الديني، أو الأيديولوجيا، أو الهوية، أو ما هو قومي، أو محلي، أو جغرافي. الفلسفةُ لا تستمدّ حياتَها من كلِّ ذلك، ولا تفتقر إلى مشروعية غير العقل تستعيرها من المعتقدات. لا مشروعيةَ للفلسفة خارج عقلانيتها النقدية، وتحرّرها من تسلّط أية مرجعية على العقل[2].
من نتائج السقوط في فخ الأيديولوجيا ظهور ما أسميتُهُ: “موضةَ الفلسفة”، أي إن غواياتِ أيديولوجيا السلطة أفضت إلى شيوع موضات تعصف بالدرس والكتابة في الفلسفة، تبدأ تلك الموضة بهيمنة السلطة الجديدة، وتتنامى تبعاً لتغولها، حتى تبلغَ بعضُ الكتابات حدّاً تصبح فيه مرآةً لأيديولوجيا السلطة وأدبياتها وشعاراتها، لحظةَ يتورط بعضُ الباحثين بتصنيف شيء من كتابات يساريين وبعثيين واسلامين – تبعاً لحقبة السلطة – بوصفها كتابات فلسفية، رغم انها يمكن أن تقول كل شيء، من دون أن تقول شيئًا له معنى فلسفي.
وتفرض “موضةُ الفلسفة” في كل حقبة سياسية عناوين ووجهة عدد غير قليل من رسائل واطروحات الدراسات العليا والبحوث الجامعية، التي تسعى للتعاطي مع كتابات “لافلسفية” لمؤسسي الأحزاب الحاكمة وكتّاب أدبياتِها وتصنفها بوصفها نصوصًا فلسفية[3].
كذلك فرضت “موضةُ الفلسفة” التباس الانشاء الفلسفي في العراق، وغرقه في تهويمات وفائض لفظي، من شأنه أن يشوّه ذائقة المبتدئين في دراسة الفلسفة. كما نقرأ ذلك في كتابات أساتذة فلسفة، يلتمسون المستحيل من أجل افتعال معنى فلسفي في كلمات صدام حسين وشيء من هذياناته. ومن الطريف ان بعض من كتبوا رسائلهم الماجستير واطروحاتهم الدكتوراه في فكر ميشيل عفلق وصدام حسين وأدبيات البعث أمسوا اليوم “كتّابا تحت الطلب”، يكتبون المفاهيم التي تنشدها جماعات دينية في السلطة.
3 – الحضور الهامشي للفلسفة الناطقة بالألمانية
مازال حضور الفلسفة الألمانية ضئيلا في الدرس الفلسفي في العراق، فمثلا تعرّف الباحثون والدارسون في جامعاتنا على الوجودية عبر جان بول سارتر “1905-1980″، وليس عبر مؤسسها سورين كيركغورد “1813-1855″، وأعمق فلاسفتها في القرن العشرين مارتن هايدغر “1889-1976″، وتعرّفوا على إيمانويل كانط “1724-1804” عبر ترجماته العربية أو الأنجليزية أو الفرنسية، وليس عبر لغته الأم الألمانية.
الفلسفةُ الناطقة بالألمانية، منذ إيمانويل كانط، كان لها تأثيرٌ حاسمٌ في رسم اتجاهات التفكير الفلسفي الحديث وتوجيه العلوم والمعارف في الغرب. يصف ديورانت في قصة الفلسفة كانط بقوله: “لم يشهد تاريخُ الفكر فلسفةً بلغت من السيادة والنفوذ في عصر من العصور ما بلغته فلسفةُ إيمانويل كانط، لقد قام بهزّ العالم وإيقاظه من نومه العقائدي، عندما نشر كتابه نقد العقل المحض. إن كل الفلسفات التي أتت من بعده ما هي إلا تطويرات سطحية يتدفق من تحتها تيار فلسفة كانط القوي والثابت والأشد عمقًا واتساعًا، ولا تزال فلسفةُ كانط إلى يومنا هذا القاعدة والركيزة الأساسية لكل فلسفة أخرى. لقد سلّم نيتشه بكل ما جاء به كانط واعتبره من المسلّمات، كما ان الفيلسوف الكبير شوبنهاور اعتبر كتاب نقد العقل المحض أهم وأعظم كتاب وضع يوما بالألمانية على مر العصور. إن الإنسان يبقى من حيث المعرفة طفلًا إلى أن يفهم كانط”. وكان كانط قد استغرق 12 سنةً فى تأمل فكرة: “نقد العقل المحض”. يصف موسى مندلسون أحدُ زملاء كانط هذا الكتابَ بأنه: “عمل موتّر للأعصاب”. وقد كتب إيمانويل كانط إلى موسى مندلسون في 16 أغسطس 1783 يقول: مع أن الكتاب “ثمرة تأمل شغلني على الأقل اثني عشر عامًا، فإنني أكملته بأقصى سرعة في أربعة أشهر أو خمسة، باذلًا أبلغ العناية بمحتوياته، ولكن من دون اهتمام يذكر بالعرض أو بتيسير فهمه للقارئ، وهو قرار لم أندم عليه قط، وإلا فلو تباطأت وحاولت صوغه في شكل أكثر شعبية لما اكتمل العمل إطلاقًا في غالب الظن”[4].
الفلسفةُ الناطقة بالألمانية فلسفةٌ دقيقةٌ، شديدةُ التركيب والوعورة، حتى إن بدتْ لأول وهلة في متناول القارئ، غير المتمرّس، فإنه يخدع عقلَه، لأنه لم يتأمل النسيجَ الغامضَ لمفاهيمها، إنها لا تبوح بأسرارِها بقراءةٍ عابرة، أو نظرةٍ عاجلة، بل يتطلّب الفهمُ والاستيعابُ الدقيقُ لأحد اتجاهاتها سنوات طويلة من الدراسة على يد خبراء، كما يتطلّب تفكيكُها ونقدُها وغربلتُها الكثيرَ من المطالعات المتبصرة والنقاشات الصبورة.
4- التعاطي مع الفلسفة وكأنها فائضة عن الحاجة
اعتمدت وزارةُ التعليم العالي في وطننا تقليدًا في القبول صنّفت فيه الفلسفةَ بالمرتبة الدنيا من معدلات النجاح في الثانوية العامة، ووفقا لهذا المستوى من المعدلات يتم القبول في تخصصات علوم الانسان والمجتمع، بنحو أصبح معه معظمُ تلامذة الفلسفة وهذه العلوم هم الأضعف معدلًا بين جيلهم، ولم ينظر إلى استعداد التلميذ ورغبته ونوع قراءاته السابقة في قبوله. في حين تظفر الفروع الطبية والهندسية بتلامذة هم الأعلى معدلًا في نجاحهم، فصارت كأنها مقبرة للموهوبين من الأبناء. وأضحى حلمُ كل التلامذة القبول في هذه التخصصات، إثر تفشي تقاليد مجتمعية تبجّل من يتخصص بالطب والهندسة، ولا تعبأ بقيمة الفلسفة والآداب والفنون وعلوم الانسان والمجتمع.
وأكثر القراء يفضلون الكتابات المبسطة، لذلك تكتظ مكتباتنا بأعمال ليست ذات أهمية كبيرة في الثقافة العالمية، وينشغل شبابنا بالكتابات التعبوية التحريضية، وبما يشعل مشاعرهم بالأناشيد التحريضية. تلك الكتابات تفشّت في لغتنا، عبر كرّاسات الجماعات القومية واليسارية والإسلامية، والتلذّذ بالوصفات العاجلة الساذجة لتفسير المشكلات وعلاجها. أما المؤلفات العميقة للفلاسفة، والكتابات الجادة للمفكرين الكبار، فهي غريبة عنا ونحن غرباء عنها. لذلك انتشرت بعض الأسماء الغربية والشرقية التي تحترف الكتابة التعبوية، بنحو أصبحنا نحتفي بكولن ولسن وننسى مارتن هايدغر. ونحتفي بأبي الأعلى المودودي وننسى محمد إقبال… إلخ[5].
6 – القطيعة بين الدرس الفلسفي في الحوزة والجامعة
لا أعرف تواصلًا ديناميكيا بين الدرس الفلسفي في الحوزة في النجف وأقسام الفلسفة في الجامعات العراقية، فلكل منهما انشغالاتُه واهتماماتُه ومقرراتُه وأساليبُه في التعليم والكتابة والانشاء الفلسفي. وعلى العكس من الدرس الفلسفي الحوزوي، الذي يسرف في تدريس مؤلفات الملا صدرا الشيرازي وتلامذةِ مدرستِهِ، فإن الدرسَ الفلسفي في الجامعة قلما يهتم بدراسة مؤلفات الفلاسفة الغربيين وتلامذةِ مدارسهم، بينما يستنزف جهودَ التلامذة في دراسة تاريخ الفلسفة ومراحل تطورها، منذ العصر اليوناني حتى اليوم، بجوار الاتجاهات الحديثة والمعاصرة في الفكر العربي. ويمكن القول: إن مسارَي الدرس الفلسفي في الحوزةِ والجامعةِ متوازيان، أي إن كلا منهما متموضعٌ في مساره، لذلك لم يلتقيا حتى اليوم، وربما لن يلتقيا غدًا، إنْ لبث كلٌّ منهما مرتهنًا بآفاق رؤيته ومشاغلِهِ ومصطلحاتِهِ ومقولاتِه.
ويخشى كثيرٌ من الدارسين والباحثين في الفلسفة وعلوم الانسان والمجتمع من البحث في فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد، وكلِّ ما يتصل بالمناهج الحديثة في قراءة النصوص الدينية، وتوظيفها في فهم الظواهر الدينية وأنماط التدين. في حين أن أخطر مأزق يهدّد حاضر هذا الوطن ومصيرَه هو شيوع القراءات المغلقة للنصوص الدينية، وتفشي أنماط تدين يتورط فيها الشباب بالعنف، ويغتربون عن عالمهم وزمانهم. ولا خلاص من دون فهم جديد للدين وقراءة بديلة لنصوصه من منظور الفلسفة الحديثة وعلوم الانسان والمجتمع.
كما يندر حضور التصوف الفلسفي وأعمال أعلامه أمثال محيي الدين بن عربي، في الدرس الفلسفي، وحتى لو حضر التصوف في هذا الدرس فإنه يحضر عبر متصوفة بغداد، الذين غلب على كثير منهم التصوفُ السني، والخبيرُ يعرف أن هذا الضرب من التصوف يختلف عن التصوّف الفلسفي. التصوّفُ السني تصوّفٌ عملي “طُرُقي” ينشغل بالعبادة والزهد، ويلتزم في سلوكه بما تقرّره المدونةُ الفقهية. رؤيته الاعتقادية كلامية أشعرية، خلافاً للتصوف الفلسفي الذي صاغ رؤيته التوحيدية المغايرة للرؤية الكلامية الأشعرية[6]. التصوّفُ السني انتهى عند أكثر أتباعه إلى ضربٍ من الرهبنة والغيابِ عن العالم، بل سقط أخيرًا في الشعوذة والدروشة البهلوانية. التصوّفُ العملي “الطرقي” تحوّل بمرور الزمن إلى ضربٍ من الزهدِ الهاربِ من الحياة، القابعِ في الزوايا والخانقاهات، والحائرِ بمواقفه المشوشة للواقع، ورؤيته المتشائمة للعالَم، والمختنقِ بضيق أفق بعض أحكام مدونة الفقه، والمتذبذبِ بين رؤية المتكلمين التوحيدية المغلقة، وتوق الروح المتّقد وأشواقها الحرة لدى المتصوفة[7].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تحرير للمحاضرة الافتتاحية في: “مؤتمر الفلسفة وأسئلة العقل العراقي”، الذي أقامه اتحاد الأدباء والكتاب في العراق، بغداد 1 نيسان 2017.[1]
د. عبدالجبار الرفاعي. الدين والاغتراب الميتافيزيقي. بيروت: دار التنوير، ط1، ص 32.[2]
[3] طالعتُ رسائل ماجستير وأطروحات دكتوراه في الفلسفة تفتعل فلسفة لثرثرات صدام حسين، فتخصص مئات الصفحات للكتابة عنها، وتضعها أحيانًا برتبة أعمال فلاسفة مشهورين.
د. عبدالجبار الرفاعي. الدين والظمأ الأنطولوجي. بيروت: دار التنوير، ط3، 2018 ، ص 125.[5]
[6] وهو ما شرحناه في الفصل 11، المعنون: “التصوّف الفلسفي وعلم الكلام رؤيتان للتوحيد”، من كتابنا الأخير: الدين والاغتراب الميتافيزيقي.
د. عبدالجبار الرفاعي. الدين والاغتراب الميتافيزيقي. ص 210.[7]