مشكلة المفاهيم في كُتب الأدلّة
المشكلة أسئلة تطرح، بغية إعادة النظر. ولأن المعرفة قد وضعت في قوالب مفاهيم، قد نظنها قبلية أو حقيقية لا يُشكك فيها، فلعل الإشكاليات المفاهيمية هي ما يُطلب طرقه؛ إن من جانب مضموني؛ كما في هذا المقال، أو في جانب آليّ؛ كما طرق عند بعض المفكرين والفلاسفة والمناطقة[1]. وقد لا يظهر أن في المفاهيم التي نتلقفها مشكلات باطنة، عند استخلاصها من المعاجم؛ تلك المعاجم التي تمنحنا بعض معرفة، مقتبسة من هنا وهناك، في شكل شظايا عابرة للأزمنة والأمكنة، ملقية عن كاهلها كل سياق، ومقام كل تعريف في سياقه. فنتعلم أوائل طرق البحث بكيفية التعامل مع “كُتب الأدلّة”، لكن هل هي كتب أدلّة فعلا؟ أم قد تكون كتب إضاعة؟ كـ “معجم مصطلحات كذا وكذا…”.
ولأن ظاهر التعاريف يغرينا بالعلم، ولتوفير الوقت، ولأن الظواهر قد لا تشي بما يخفى من الحقائق الباطنة، وما تتطلبه الوشاية من إعمال الفكر بالأسئلة والإشكالات؛ فقد نكتفي بما تمنحنا إياه كتب المعاجم والمصطلحات من رأس الجليد، فيخفى عنّا ما هو أعظم! ولربما اقتصرنا في جلّ تعريفاتنا ومفاهيمنا على ما شاع وذاع، وعند التحقيق تظهر الفجوات، وربما كم هائل من التناقضات. ولعل أبرزها إشكالية هو “مفهوم الإنسان”، خصوصاً إن امتطينا بعض المفاهيم، وجعلنها مسلمات، نبني عليها ما يليها من مسائل وتفريعات. ولأننا أمة مسلمة، تتفرع بعض اجتهاداتها العملية على مفاهيمها البيانية، فلا بدّ من التحقق من دلالات المفاهيم بحسب سياقها، وإثبات مشروعيتها العملية وفق بيئة التنزيل، وما يتصل بها من لغة استعمالية، حتى لا تصبح اللغة حجاباً دون أن نشعر.
ومن المفاهيم التي أُعمل النظر فيها مرّات ومرات من القدم حتى الآن، هو “مفهوم الإنسان” الشائع؛ بحسب الموروث الإسلامي، المتأثر بالمنقول اليوناني لهذا التعريف، إضافة لمجموع معارفنا العامة الحالية؛ فيظهر أن جهات جملة تعريفات ماهيّة “الإنسان” -الشائعة- هي التي تُعرّفه وفق سلم الموجودات، وشكلها البيانيّ-المنطقيّ بأداة “الفَصْلِ”[2]، المميز له عن الموجودات المرئيّة[3]؛ بوصفه أحد الذاتيات الثلاث للتعريف في البناء المنطقي الموروث، ذو الأصول التداوليّة والميتافيزيقيّة اليونانيّة. وثانياً، في العصور الوسطى -كما تسمّى- من جهة تعريفه بمجالاته بِنسْبةِ صفاتهِ إليها وصلاً أو فصلا، كالتعريفات الواصلة له بالعالم الغيبي، للمقرين بوجود إله؛ فهو مربوط بصفات تعرّفه من جهة نواقصه تارة، لتفصله عن عالم الغيب الأكمل؛ أو تعريفه من زاوية وجود المكوّن الغيبي فيه، ليصله بالعالم الأكمل بعدّة طرق، منها: ما اشتط في نسبة “كمالات عالم الغيب” للإنسان أو تأليهه[4]! ومنها جهة المقرين بموجودات العالم الغيبي والخبر الإلهيّ، المعرفيّن للإنسان بالعلم المكرّم به على الملائكة، كُلٌّ بحسب تحديده لمعنى العلم، والتكريم، وعدّهِ ملزوماً أو لازماً لحقيقة “الإنسان”. وثالثاً، جهة المعرفيّن له ببعض قواه، أو بحركيّته، وشخصانيّته، وتطوّريّته، دون تحديد غاية، كبعض الفلسفات الغربيّة الحديثة، حتى دقّت مع تشظيته بحسب التخصصات العمليّة، فضلا عن التشعبات التلفيقية أو التوفيقية بين الفلسفات المتباعدة[5].
وأشهر طرق تعريف الإنسان طريق تعريفه بالماهية، تأصيلاً وتأسيساً بالاستبطان، أو بالاستدلال العقليّ، تحت إطار تراتبية الوجود الإغريقيّة، مزجاً له بتعريفه بالخلافة والتكريم الإسلامي. فهل كان التعريف الإسلامي الشائع إسلاميا صرفاً؟
ماهية الإنسان بالفصل الذاتي
إنَّ أظهر تعريف يُعرّفُ به الإنسان منذ الحضارة الهيّلينية حتى اليوم وفق فلسفات الثبات، هو التعريف بـ “العقل”؛ بعدِّهِ الفصل المميز للإنسان، مروراً بتأثيره في الثقافة الإسلاميّة، في أثناء ترجمة الموروث اليوناني الفلسفيّ تحديداً، بالإضافة لعموم الترجمات الموافقة لهذا التعريف في العصور الإسلاميّة المتقدّمة. وقد اختلفت التعاريف في شُعبها بحسب تعريف “العقل” المُشكل، إلا أنَّ أصل صور هذه التعاريف ومركزها هو التعريف المنطقي: “الإنسان حيوان ناطق“؛ أي عاقل، وهذا التعريف يُوضَّحُ من عدة وجوه لا تستقل بذاتها، وإنما تُحلل لِتُرَكَّب الصورة الجامعة لهذا التعريف؛ وأساسها الوجه الفلسفيّ، المُبَلْوَر وفق المنطق اللغويّ الخاص بالفلسفة اليونانية ومشكلاتها إذّاك[6].
وهذا يطرح إشكالاً مهما، وهو: هل دلالة العقل واحدة لدى جميع الأمم والثقافات التي أخذت بالمنقول اليوناني؟ فإن كانت واحدة فهل لها ذات التراتبية في الرؤية الوجودية للإنسان والعالم؟ والذي يهمنا هو هل “دلالة العقل” واحدة في كل شُعب المعرفة الإسلامية؟ وهل هي واحدة بحسب تقلباتها في الأزمنة الإسلامية منذ القرن الأول حتى بلورة العلوم وتدوينها؟
إن تحرير مفهوم “الإنسان”، وخصوصا مفهوم “العقل”؛ من أهم متطلبات هذا الزمن، أمّا الأول فلأنه زمن تنازع بين قصتي الخلق والتطوّر، ووفق التطور عُلّمت جلّ العلوم التطبيقية المعاصرة، وأمّا الثاني؛ فلأهمية دلالة العقل في التكليف، وفي كثير من تأويلات الحِكم من بعض الأحكام الشرعية، وخصوصا ما اتصل بالجنسين. فما الإنسان، وما العقل؟ في اللغة العربية المستعملة في بيئة التنزيل؟ وما هما في الاستعمال القرآنيّ الخاص باللغة الرفيعة التي بها شرّعت الدلالات؟
إن الإجابة عن هذه الإستشكالات لا تكون عبر طلب “كتب الأدلة”، بل بطلب دلالاتها من الكتب التي عرّفت الإنسان، إن رأسا، أو عرضاً، وفهم سياق كل كتاب وما يتطلبه، فضلا عن ضرورة تعريف الإنسان بمجموع الاستعمالات اللغوية في بيئة ما، وأهمها بيئة التنزيل: معرفة الاستعمال العربي حينها، والاستعمال القرآني. وحينها يمكننا أن نجيب بوضع الاستعمال القرآني، وتعريف الإنسان وفقه، في سياقات السور والآيات، وترتيب النزول، لا أن نطلب التعريف من كتب الأدلة، لأن قائلها أحد العلماء المسلمين -رحمهم الله-. فالتعريف دليل المفهوم، والدليل لا بدّ له من مشروعيّة.
[1] راجع: طه عبد الرحمن، فقه الفلسفة: القول الفلسفي (بيروت: المركز العربي الثقافي، ط٣، ٢٠٠٨م)
[2] “الفصل القريب”، وهو: “الذي يميز الماهية عما يشاركها في جنسها القريب، مثل: “ناطق” فإنه يميز ماهية الإنسان عما يشاركها في جنسها القريب”. عبد الرحيم فرج الجندي، شرح السلم في المنطق للأخضري (القاهرة: المكتبة الأزهرية للتراث، د.ط، د.ت)، ص28.
[3] ربما استبطن المتأمل في التعريفات بحسب سلّم الموجودات، شعور وحدة المادة التي تخرج منها الكائنات، وفي ذلك دلالة خفية للربط بـ”هيولى” أرسطو، من حيثية الجوهر المادي.
[4] راجع: طه عبد الرحمن، روح الدين، ص99- 105.
[5] راجع: إرنسْت كاسيرر، مقال في الإنسان، ترجمة: إحسان عبّاس (بيروت: ابن النديم، ط١، ٢٠٢٠م).
[6] انظر: إرنسْت كاسيرر، مقال في الإنسان، ص٢٣-٩٩.