مسرات القراءة ومخاض الكتابة
يكتب عبد الجبار الرفاعي سيرته الذاتية في كتابه بالعنوان أعلاه، من خلال تجربة متعة القراءة وألم الكتابة التي خاضها في عمره المبكر. هذا الكتاب بمثابة منهج مدرسي وبيوغرافيا في آن واحد. ففي حين يشرح مبادئ الكتابة وقواعدها المؤدية إلى الاحترافية، تتكشف شخصية الرفاعي أكثر كلما انتقل القارئ من موضوع لآخر ضمن الموضوعات المقالية المطولة التي تتشكل من منها هيئة الكتاب وفحواه، اذ يبلغ عدد عناوين المواضيع ٢٣ تنتثر على ١٧٠ صفحة، عبرّ فيها الرفاعي كل ما ودّ أن يقوله من مواقف وذكريات وآلام وتجارب ودروس ومعارف حينما بدأ قارئاً شرهاً ومستمتعاً بكل ما يقع في يده من عناوين، ثم كاتباً قلقاً متشككاً وغير قانع من جودة ما يكتب، مروراً بالترجمة التي وصف متاعبها وكأنها كتابة أخرى وضرب من التأليف. وأنا شخصياً مررت وأمر بهذه الأدوار جميعها – رغم أنني لست كاتباً محترفاً – ولا زلت أمارس دور المترجم وأشعر بتلك التوصيفات الدقيقة وأعلم كنهها والمشقات خلفها.
الكتاب الذي نسجت عباراته بترصيص جميل بين المبنى والمعنى خلاصة تجربة كاتبه الذي اضطرته الظروف الى الهجرة والمنفى فسلك مسالك التراث الرتيبة المملة حتى انتشلته القراءة الواعية – وخطين تحت الواعية – من خلف أسوار اليقين والدوغما، ورمته في فضاء الفلسفة والتنوير والتفكير الحر، ليكتشف ذاته وجودياً ضمن ما يَكتشِف من أبعاد الإنسان المجهولة.
تضمن الكتاب الكثير من الأفكار والنقاط في أرجائه التي تستحق التوقف عندها ملياً، وقد صاغها بأسلوبه الرشيق المعتاد. فهو يؤكد أنه بينما من شأن القراءة أن توقظ العقل وتبعث الوعي، هناك كتب تُفقر العقل وتشيع الجهل وتضيّع العمر و “يتناسب انتشار هذه الكتب تناسباً طردياً مع تفشي الجهل وانحطاط الوعي”، كما يقول. المهم هنا هي القراءة المنتجة التي يتفاعل معها عقل ووجدان القارئ فتقدح القراءة الجديدة شرارات وعي مختلف، ليضاف إلى مخزون أفكاره ويُعاد نسج روابط بعضها ببعض لتولد تصوراً جديداً وموقفاً آخرَ تجاه قضية ما، لا مجرد القراءة لأجل مراكمة المعلومات وتبني موقف انفصامي يفتقد إلى رؤية، لهذا يقول الرفاعي: “رب قارئ ليس له من قراءته إلا النصب والتعب، القراءة بتأمل صبور من شأنها أن تنقل القارئ من يقينياتِ الأجوبة الجاهزة إلى قلق الأسئلة الحائرة. قيمة كل قراءة تعكسها قدرتها على أن تكون منتجة، بمعنى أنها تثير الأسئلة في ذهن القارئ، ويرحل معها عقله إلى ما لم يألفه من فضاء مسكوت عنه في التفكير، ليس المهم كمية ما تقرأه، المهم نوع ما تقرأ”.
وكما تعلّم الرفاعي من القراءة ونشّأَته وصار مديناً لها فغدى كاتباً، فإنه يتحدث في أغلب باقي صفحات الكتاب عن تجربته المختلفة ككاتب رغم أنه لا زال قارئاً. فالكتابة بالنسبة له وجود جديد تتحقق فيه ذاته، ويبوح فيه بخواطره وقناعاته وعواطفه، فالكتابة التي تتنكر للاعتراف برأيه لا قيمة لها. أبدى الرفاعي ضيقه من خيانة أي كاتب لضميره الأخلاقي، بل عبر عن ذهوله من سامي مهدي الذي كان شاعراً مبدعاً وكاتباً موهوباً، لكنه كان ينام في سرير سلطة البعث في العراق. شغل مهدي عدة مناصب إعلامية في رئاسة صحف نظام صدام، وكان آخر منصب هو رئاسة مؤسسة الثورة للإعلام حتى سقوط النظام. كان وفياً لأيدولوجيا البعث وقد قيل أنه اعترف بحضور جلسة تعذيب وحشية لسكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي سلام عادل الذي مات تعذيباً في 1963، وقد أخذ ساعة يده! يشبِّه الرفاعي هذا المشهد بخيانة الفيلسوف فرانسيس بيكون لصديقه الحميم ايرل اسكس، الذي أطاع الملكة في إعداد صحيفة اتهام ضد اسيكس واجتهد في كيل الاتهامات ضد صديقه وولي نعمته، وتولى مهمة المدعي العام إلى أن نفذ حكم الإعدام!
ويذكرني هذا بالانتاج الشعري في الغرب إبان فترات الحروب خاصة الحرب العالمية الأولى، إذ صدعت أقلام الشعراء والأدباء برفض عبثية وهمجية الحروب، بل مجرد قتل الإنسان لمجرد كونه في المعسكر المعادي. للشاعر الإنجليزي توماس هاردي (1928) The Man He Killed فمثلا جاءت قصيدة استنكاراً لحرب البوير الثانية. (1899 – 1902)
ومن بين محطات الكتاب التي وقفت عندها وشعرت بها، وقد اعترف الرفاعي بمشكلتها وتعلم منها، هي: “أن بعض الأشخاص ممن لا يعيشون بين أوراق الكتب يعرفون الإنسان جيداً من خلال تفاعلهم اليومي مع الواقع، ربما أكثر مما نعرفه نحن جماعة الكتاب والقراءة. رأيتهم أكثر قدرة على التكيف مع الواقع وبناء علاقات وثيقة مع غيرهم منا نحن معشر الكتاب والمثقفين”. وأنا أقول هنا تواضعاً أن المثقف يمارس حياته بين القراءة والكتابة لا ليبقى في برجهما العاجي ووسط أروقة الثقافة الموصدة على أصحابها بل ليترجم ذلك في حياته الطبيعية الاجتماعية على أرض الواقع ويختبر نفسه وحصيلته فيها، حين يتعامل مع صنوف الناس ويمشي في الأسواق. فالإنسان مهما سما عقله وروحه يبقى سمواً ناقصاً غير ناضج إذا لم تعتريه شوائب الواقع ومكدرات التعايش ومصادماته.
الرفاعي منتبه للواقع وديناميته، ولهذا هو مدرك لانفجار المعلومات وتوفرها في عصر الانترنت، وشيوع الكتّاب غير المحترفين وتغير مفهوم الكاتب، وفقاً لذلك. وهو لا يعبر عن احباط في تلاشي المفاهيم السابقة للقراءة والكتابة فهو يعي ضرورات الصيرورة بل أن الصيرورة ذاتها كمفهوم قابع في رؤيته للكون والأشياء. هذا الأمر ومع انتشار الكتب الالكترونية والنشر غير الورقي جعله يتموضع مكرهاً ويغادر الورق – بحسب المقتضى – الذي ألفه وعاش عليه سنوات عمره، اذ أن أصدق مثال للتعبير عن شغفه بالكتاب والمكتبات هو ما حكاه حين دخل مكتبة بيع كتب في الكويت في عشرينيات عمره، وجلس فيه ساعات طوال حتى أُغلق المحل وهو بداخله، فاضطر أن يواصل القراءة حتى يعيد صاحب المحل فتح الأبواب بعد استراحة الظهيرة.
الكتاب صدر في طبعته الأولى في يوليو ٢٠٢٣، وستصدر طبعته الثانية العام القادم، مضافاً لها ٦ فصول أو موضوعات مقالية أخرى، كما أخبرني الرفاعي.