لفتات من المسرات، وانتباه للمخاضات! مسرّات القراءة ومخاض الكتابة
بين يدينا كتاب ينتمي إلى كتب السير الذاتية، ولكنها سيرة تكاد تنحصر في قضايا القراءة والكتابة، والكتاب وإن كان قليل الصفحات صغير الحجم، إلا أنه بحق بُغية المنهوم، ومورد العَطِش. شرعت في قراءة الكتاب فور اقتنائه من معرض الرياض الدولي للكتب 2024م، ومع توافد الكتب الكثيرة إلى مكتبتي من حصيلة المعرض وغلّته، إلا أنها لم تستطع أن تنتزع ها الكتاب من يدي، وقاومت مختلف الإغراءات حتى أنهيتُه.
استطاع د. الرفاعي أن يجعلني أسيرا لكلماته وأفكاره. كنتُ قبل البدء به قد توقعتُ ألا أجد فيه شيئا لافتا، وأضمرت في نفسي أنني لن أكمله كعادتي مع بعض الكتب. ومرجع هذا الظن قراءتي لكثير من الكتب مما يمكن أن يملأ قبة الصخرة في شأن القراءة والكتابة، وأنني بتلك الكتب قد أوفيت على الغاية. فما الذي يمكن أن يضيفه هذا الكتاب في هذا الشأن المشبع بالحديث عنه؟
وهل ستتفوق كتابته على عشرات الكتب الرائعة والتي طار ذكرها في الآفاق؟
والحق أن هذا الظن المجحف تلاشى مع أُولى الصفحات، ووجدت أن الكاتب يخاطب القارئ ويمسك بتلابيبه، ويشعره بأنه إنما جوّده وأتقنه وكتبه لأجله فقط! ورد على ذهني وأنا أكتب هذه الكلمات عن كتاب د. عبدالجبار تلك المقولة الجميلة لعبدالفتاح كيليطو: “حينما أقرأ محكيا، يحدث أن أقول لنفسي أمام مقطع: قد عشتُ هذا المشهد، وأحسست بهذه العاطفة، ويتكوّن عندي انطباع بأن ما أقرأه قد كتب لي خصوصا، بل يحدث أن أقول لنفسي بكل سذاجة: كان بمقدوري أن أكتب هذا الفصل، وهذا الكتاب.
وفي حال قصوى، أكاد أحقد على المؤلف لأنه قد اختلس شذرة من ذاتي، وسلبني إياها! “.
أقسام الكتاب
توزعت قضايا هذا الكتاب على 24 موضوعا، بدأها بـ ” محطات القراءة المبكرة” وهو المتوقع، وأنهاها بـ ” لا نتعلم الكتابة إلا بالكتابة ” وهو ما لم أتوقعه.كانت موضوعات الكتاب متماسكة وإن اختلفت، يسلمك الواحد منها إلى أخيه بسلاسة، وأنت في جوع لا يتوقف ونهم مضطرد، تخشى من النهاية التي لا بد أن تأتي قبل أن يكتمل الشبع والرِّي!
كما زاوج د. الرفاعي بين فكرتي القراءة والكتابة بطريقة لا يحسنها إلا د. الرفاعي نفسه، وكنت أظن أن جبرا إبراهيم جبرا في “معايشة النمرة” قد ختم الموضوع وأغلقه.
وهذه بعض اللفتات
مع الكتب الخالدة
من جميل ما أعجبني في الكتاب حفاوة صاحبه بالنص العالي والكتب الخالدة، وتكراره عن ضرر تلك الكتابات الهزيلة، تأمل معي هذا النص: “أسوأ المتاهات متاهة القراءة العشوائية، نسيان النصوص الخالدة، والغرق في الكتابات الهامشية أحدُ متاهات القراءة. لا يقرأ الفلاسفةُ الكتابات الهامشية والشروحات والتعليقات، يكتفون بقراءة المتون والنصوص الأساسية. يقرأون الأعمال الأساسية في الفلسفة اليونانية والعصر الوسيط والحديث، ويكتفي أكثرهم بذلك ولا ينشغلون بغيرها. يستغرقون في التأمل والتفكير العميق وتوليد الأسئلة الكبرى، واقتحام ما هو منسي للذهن ” ص 43 .
ويبرّر سبب تأكيده على تجاوز هزيل النصوص وسخيف الكتابات، فيقول : ” العمر قصير، استنزافه بكتب رديئة يثير الأسى والحسرات حين نستيقظ لاحقا. الكتاب الذي يستلب الوعي يثير الحزن ويطفئ بداخل القارئ شغف القراءة ومتعتها. كتبات قليلة وربما نادرة توقظ العقل وتحدث وعيا علميا بالطبيعة الإنسانية، ورؤى عميقة للعالم ” ص 40
قيمة النص العالي:
في الكتاب تأكيد بارز على أن قيمة القراءة ليست العثور على المعلومة، بل إنها تكمن في نوع القراءة وما تنتجه من أفكار وأسئلة: ” رب قارئ ليس له من قراءته إلا النصب والتعب، القراءة بتأمل صبور من شأنها أن تنقل القارئ من يقينيات الأجوبة الجاهزة إلى قلق الأسئلة الحائرة. قيمة كل قراءة قدرتها على أن تكون منتجة. بمعنى أنها تثير الأسئلة في ذهن القارئ، ويرحل معها عقله إلى ما يألفه من فضاء مسكوت في التفكير.” ص 39
تنبّه د. الرفاعي إلى ما غفل عنه كثير من مدمني القراءة، إذ يحسبون أن العيش الكامل مع الكتاب كفيل بارتفاع مستويات الوعي وتطور المهارات، فيقول مصوبا الأمر: ” أدركت متأخرا أن واحدة من ثغرات شخصيةِ مَنْ يعيش معظم حياته في فضاء الكتب هي نسيانُ الواقع، والجهل بأكثر ما يطفو على سطحه، وما هو محتجب في مدياته الواسعة وطبقاته القصية. لا يتعلم الإنسان من الكلمات إلا قليلا، الواقع معلمٌ عظيم ” ص 57-58
الضمير الأخلاقي بين الغفلة واليقظة!!
أحسن د. الرفاعي حين تحدث عن هذا الأمر، في وقت كاد أن ينسى في كتابات الكَتَبة، ومؤلفات المؤلفين .. ولا غرابة فنحن في زمن اللهاث وراء الشهرة والمال، ومنافسة الأقران وانتزاع الحظوة، وتوسّد كراسي الملتقيات، والتطلع إلى جوائز الاحتفالات. : “لا يحمي الكتابةً والكاتب والقراء إلا يقظةُ الضمير الأخلاقي عندما يزور قناعاته ، ويظل قلمه معروضا للبيع لمن يدفع أكثر . أسوأ كاتب مًن يعمل كما يعمل البائع المتجوّل، البائع هدفُه بيع بضاعته، والظفر بربح عاجل من أي مصدر كان.”
الكتابة -كما هو رأي المؤلف- ليس من شرطها أن تلقى قبول الجميع، بل الأصل في الكتابة الجيدة أن تجد لها من لا يحتفي بها، لأنها توقظ وعيه، وتنبهه على خطأه: ” الكتابة الحقيقية هي تلك التي تثير نقاشا جديا (مع/ضد) . يكلف الكاتب الإصرارُ على هذا اللون من الكتابة الكثير من الإزعاجات.. لا جديدَ في كتابة لا تخرج على إجابات مكررة وقناعا جاهزة. الكتابة الحقيقية كتابةٌ خلافية، تثير من الأسئلة من الأسئلة أكثر مما تقدّم من الأجوبة، وتتمرد على الكلمات والإجابات المملة، قوة الكتابة في فاختلافها، وفاعليتها في إيقاظ الوعي وتكريس الروح، وإيقاظ الضمير الأخلاقي” ص85.
المؤثرات في النصّ!
يؤكد د. الرفاعي أن النص ليس شيئا جامدا لا يتفاعل مع المؤثرات، بل ” النصّ كائن حي يختلف باختلاف مثابرة وموهبة ولغة عصره وحال من يكتبه. لو كان الكاتبُ يكرّر ما يكتبه غيرُه ويطابقه؛ لأصبحت الكتابة نسخة واحدة، ولما تمايز كتبٌ عن كاتب وإبداع عن إبداع، ولصار كل الروائيين ديستويفسكي، وكل الفلاسفة إيمانويل كانط … ” ص106
خاتمة: الكتاب مليء بالأفكار واللفتات المهمة، وذكر شيء وترك أشياء ليس مما يُحمد، والحق أننا لن نوفي مثل هذا الكتاب حقّه، إلا إذا أعدنا نسخه ثم لصْقه بكليّته .. وهذا متعذّر.
ولعله يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق!
أ.د. عبدالله بن علي الشهري، أستاذ العقيدة ومقارنة الأديان في جامعة الأمير سطام -الخرج / السعودية
28 جمادى الآخرة 1446هـ 30 نوفمبر 2024 مالرياض حرسها الله .