تنامي اليمين المتطرف الأمريكي وتداعيات ذلك على العالم الإسلامي

شكّل فوز الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب، والمحسوب سياسيا على ما بات يعرف باليمين المتطرف، ثورة سياسية تاريخية هزّت العالم وقلبت معايير العمل السياسي الدولي رأسا على عقب، وغيّرت معها مجريات الأزمات الدولية الحادة. على المستوى الداخلي الأمريكي، نُظر لصعود ترامب واليمين المتطرف عموما بنوع من الاندهاش والاحساس بالخطورة خصوصا لدى الحزب الديمقراطي والليبراليين عموما، وكدا لدى الجمهوريين على السواء. فلم تكن هذه القوى التقليدية تتوقع أن يحصد ترامب على هذه النتائج خصوصا أن النظام الاقتراعي الأمريكي كثير التعقيد والشفافية بالشكل الذي يصعب معه استغلال النفوذ أو اللوبيات للضغط على الناخب والوصول للسلطة، فهو نظام تُفرز فيه السلطة النهائية بكثير من التمثيل الواسع والفرز الدقيق في ولايات ضخمة وكثيرة السكان. ذلك أن طبيعة النظام الديمقراطي المتبع في الولايات الأمريكية يحاكي نموذج الديمقراطية المباشرة، وهو النموذج الذي أشاد به كثيرا منظر الديمقراطية الأول الفرنسي اليكسيس دي توكفيل في كتابه “الديمقراطية في أمريكا”[1]، باعتباره النمط الأكثر قربا من رغبات المواطنين والأوسع تمثيلا.
وبسبب قوة وصعوبة نظام الاقتراع ونمط السياسية الديمقراطية في أمريكا، فلقد اعتقدت القوى التقليدية ومعها الناخب الليبرالي الأمريكي أن الخطاب اليميني المتطرف والشعبوي لن يجد له قدما في الساحة السياسية الأمريكية، خصوصا أن تاريخ الديمقراطية الأمريكية أُسس على قيم الحرية والديمقراطية باعتبارها قيم تمثل هوية أمريكا الجديدة التي يعتز بها كل أمريكي، وهي نفس القيم التي يرفضها ويغتالها الخطاب الشعبوي الأمريكي بزعامة دونالد ترامب باعتباره أول يميني متطرف وشعبوي يعتلي عرش الرئاسة الأمريكية. أما على المستوى الخارجي، فقد رأى البعض في صعود ترامب تهديدا للوجود الأجنبي وللمهاجرين والطوائف الدينية وأصحاب المصالح المختلفة الذين ينتعشون مع حكم القوى التقليدية في الحكم سواء الديمقراطيون أو الجمهوريون. فيما استشرف البعض الاَخر إمكانية فتح صفحات جديدة مع الجالس الجديد على رأس الدولة، خصوصا فيما يتعلق بمناطق النزاع الدولية التي أدارت إدارة أوباما ظهرها اتجاهها وانتهجت سياسة انعزالية أدّت إلى انتعاش التيارات المتطرفة والجماعات الإرهابية، وهي الجماعات التي يريد ترامب القضاء عليها.
تؤشر كل هذه المعطيات السالفة الذكر إلى استحالة تنامي خط يميني شعبوي راديكالي في أمريكا، لاعتبارات تاريخية وسياسية وحتى اقتصادية، خلافا للظروف السياسية والثقافية والاقتصادي في أوروبا والتي أفرزت تيارا يمينيا متصاعدا منذ انهيار الاتحاد السوفياتي. لكن الطلب الاجتماعي على تبني قيم راديكالية من مواضيع الهجرة والعولمة والنظام المالي العالمي والصراع الثقافي والهوياتي، جعل شروط نشأة وصعود التيارات اليمينية المتطرفة متوفرة، ومنها الشروط التالية: أولا، تصاعد معدلات الهجرة وطلب اللجوء والنازحين من مناطق النزاعات، ثم تنامي الحقد الاجتماعي على النخب الحزبية التقليدية وعلى اللعبة السياسية عموما، وانهيار الطبقة الاجتماعية التقليدية لصالح ظهور طبقات جديدة، وتنامي الحقد الثقافي على القيم الرأسمالية والعولمة، ثم تصدع نموذج دولة الرعاية الاجتماعية، وارتفاع معدلات البطالة، وتراجع تأمين العمل المستدام.[2] لقد اجتمعت هذه العوامل في الفضاء الاجتماعي والثقافي الأمريكي ليؤجج الطلب العام على تبني قيم التطرف اليميني كرد فعل ضد تلاشي المكتسبات التقليدية للطبقات الاجتماعية، وكانعكاس أيضا على حالة الخوف من الأجنبي ومن تصدير الأزمات الإقليمية والدولية التي تشهدها مناطق متعددة كمناطق الشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية وإفريقيا. إذا كان الطلب العام على تبني أفكار وقيم اليمين المتطرف قد ازداد واتخذ طابعا سياسيا وهو ما ظهر في فوز الرئيس دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، فإن لهذا الطلب محفزات اقتصادية واجتماعية وثقافية أيضا ساهمت كلها في تشكّل الطلب العام في صيغته النهائية على الأقل، دون أن تشكل هوية عامة أو رغبة مجتمعية شاملة. ومن أجل تشريح طبيعة هذا الطلب، سنقوم بعرض تلك المحفزات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي ساهمت في تشكل الوعي اليميني في السياق الأمريكي.
[1] أنظر، Alexis de Tocqueville, Democracy in America and Two Essays on America. Translated by Gerald. E. Bevant. London, Penguin Books, 2003.
[2] Norris, Pippa. Radical Right; Voters and Parties in the Electoral Market. )New York: Cambridge university Press, 2005(, p11.