تساؤلات حول تفعيل مقاصد الشريعة في المجال السياسي
ازداد في الآونة الأخيرة اهتمام بالغ بالمقاصد والاجتهاد فيها، ومحاولة تطويرها؛ نتيجة انسداد أفق القراءة “النصية” أو”الحرفية” وقصورها مُوِّلدة اختلافات ونزاعات لا حد لها؛ بين تشكيلات اجتماعية ودينية، حيث تمخض عن ذلك نوع من التعصب والفوضى المنهجية، فبات الاتجاه إلى المقاصد بمثابة نقد للمنهجية الفقهية الموروثة، وكذلك لحل معضلة الملاءمة بين أحكام الشريعة والعصر. وقد انبرت ثلة من المفكرين والباحثين من تخصصات عدة إلى العودة إلى ذات النصوص المؤسسة التي انطلق منها أصحاب القراءة “الحرفية للنص” للكشف عن مقاصدها الكلية؛ في أفق الحد من التناقضات بين الأحكام، وكذا ضمان حضور اجتماعي وسياسي لهذا النهج في واقع الأمة.
يعد التفكير المقاصدي تفكيرا سياسيا في مآلاته، طالما أنه يتوخى فهم حركة الواقع الاجتماعي والعمل على تغييره، وإصلاح أعطابه، ولذلك تعد العودة إلى المقاصد؛
بمثابة رجوع إلى الاهتمام بالمسائل السياسية، التي استبعد منها الفقه، وانحصر اهتمامه في حياة الأفراد فحسب.
يرجع الفضل في قدح شرارة الاهتمام بالمقاصد دعوة الشيخ محمد عبده تلامذته، للعناية بكتاب الموافقات لأبي إسحاق الشاطبي، ثم تواصل التأليف في هذا المجال مع الطاهر ابن عاشور وعلال الفاسي، ثم تواصلت الكتابات في المقاصد تأريخا وشرحا وتفصيلا وتقعيدا إلى يوم الناس هذا.
وقد بدأ الحديث عن ضرورة بعث مبحث المقاصد، باعتباره مدخلا للتجديد والاجتهاد. وكذا استنباط أحكام مواكبة للمستجدات المعاصرة؛ “أي تقبُل الجديد ودعم الاجتهاد” فبرزت مجموعة من المشاريع التجديدية للمقاصد، نذكر منها مشاريع الدكاترة: (طه جابر العلواني، وجمال الدين عطية، وجاسر عودة وحسن حنفي وطه عبد الرحمن…) بعضها حاول تحرير الفكر الفقهي التقليدي من انعزاله عن الواقع، والبعض الآخر حاول الدعوة إلى تفعيل المقاصد لتلبية حاجات الإنسان المعاصر، والتأسيس لبناء جديد لها، والبعض الآخر حاول إضافة مقاصد أخرى لم ينص عليها الرواد الأوائل لهذا العلم.
ونشير أن مبحث المقاصد فتح للمقاصديين المعاصرين إمكانات تأويلية مهمة، رغم الاختلاف والتباين حول ماهية التأويل وحدوده. يمكن أن نصنف هذا التأويل إلى نوعين: التأويل الحر والتأويل المؤطر، “وكل تأويل يعبر عن منظور مخصوص لطبيعة الاجتماع السياسي.
التأويل الحر: ترتكز على التحليل “الاتجاهي” أو القراءة السهمية للنصوص؛ القائمة على قراءة تاريخية إناسية غائية. دعا أصحابه إلى “نظرية مقاصدية تأويلية” ترتكز على مقولة الطوفي ومفادها “أولوية المصلحة على النص” ثم الاستناد إلى القول بكون “النص مقدس والتأويل حر” ويمكن القول أن هذا الاتجاه قد قدحت شرارته الأولى الإصلاحية الإسلامية الأولى مع محمد عبده، وجسدها عمليا قاسم أمين في مصر، وكذا الطاهر حداد في تونس في موضوع المرأة، ويمكن أيضا أن ندخل مصطفى السباعي في سوريا وعلال الفاسي في المغرب مع تركيز هذا الأخير على الجوانب السياسية، طبعا، مع بعض التباينات بين هؤلاء حسب اهتماماتهم والظروف السياسية والاجتماعية لبلدانهم.
التأويل المؤطر: عرض لاتجاهات فهم النصوص وتفسيرها، وحصرها في ثلاثة اتجاهات، أولها الاتجاه المقاصدي، وثانيها الاتجاه اللفظي، وثالثها الاتجاه التقويلي، فالأول ينطلق من كون صاحب النص له مقاصد معينة يراد من المخاطب فهمها، والثاني يتعامل مع ألفاظ النص دون التفات إلى مقاصده، والثالث فهو الذي يُقَّوِّل صاحب النص كل ما بدا له من المعاني والمضامين، مفترضاً أن تلك مقاصده ومراميه معتمداً على محض الرأي.
وثمة من قسم الفهم المقاصدي إلى قراءتين؛ قراءة غائية وقراءة عملية فالأولى تتحرك مع روح النص؛ والثانية؛ أي القراءة العملية التي تجعل من المقاصد آلة لتأويل النصوص وتطوير التشريع، وتجسير الفجوة بين ما يُسمى خطأ بالأصالة والمعاصرة، وفي هذه القراءة يمكن أن نرصد ثلاثة اتجاهات فالاتجاه الأول يسمى بالإصلاحي ومن رواده، الطهطاوي والكواكبي والأفغاني والتونسي ومحمد عبده، والثاني يسمى باتجاه الاسلام السياسي؛ من أعلامه الطاهر بن عاشور وعلال الفاسي وعبد الحميد بن باديس. والثالث يسمى باتجاه تاريخية النص ودعاته من غير أهل الاختصاص في الشريعة، و منهم محمد أركون وحسن حنفي. و هناك أيضا من قسم القراءات الفكرية التأويلية للمقاصد إلى أربع قراءات مختلفة على المنوال التالي: ” القراءة الأولى: تُسمى بعقلنة المقاصد ويمثلها محمد عابد الجابري، والثانية القراءة التاريخية الاجتماعية؛ ويمثلها عبد المجيد الصغير ومحمد أركون، والثانية، تطوير المقاصد لأصول الفقه، ويمثلها وائل حلاق وعبد المجيد تركي والرابعة تعتبر علم المقاصد هو الصورة التي اتخذها علم الأخلاق للاندماج في علم الأصول ويمثلها طه عبد الرحمن.
من بين ما تتوخاه هذه المقالة المقتضبة إثارة ما يلي؛ العمل على بيان فاعلية المقاصد في الاجتماع السياسي، ثم تحيين المقاصد وتفعيلها تلبية لحاجات الإنسان المعاصر، مستثمراً مناهج العلوم الاجتماعية، وآليات “المنهج المقاصدي” من قبيل قواعد أصول الفقه، وفقه الواقع، وفقه الأولويات والموازنات واعتبار مآل الأعمال…كما أن الحديث عن تنزيل المقاصد وتفعيلها في ” الشأن السياسي” أو ” الأمر السياسي” أو “المجال السياسي” بمثابة تجسيد لفكرة الشاطبي القائمة على نقد ما ليس تحته عمل؛ كما أنه من جهة أخرى؛ أي القول في المقاصد في تدبير الشأن العام؛ لوجود فاعل سياسي إسلامي في الوطن العربي بعضه كان في موقع صناعة القرار ويطمح للعودة من جديد؛ والبعض الآخر يراوح مكانه، وجميع المكونات الاسلامية المشتغلة بالسياسة؛ ما فتئت تدعي انطلاقها في الممارسة من مرجعية دينية. وتجدر الاشارة إلى أن الغرض من إثارة الموضوع ليس الدعوة إلى التوسع في مباحث النظر المقاصدي؛ لأن هذا الأمر قد اشتغل به العديد من الباحثين وما يزالون؛ وليس أيضا من غاياته النظر في التراث المقاصدي برمته، بقدر ما نلمح إلى إمكانية تحيين مقاصد الشريعة في تدبير الشأن العام، بتقلباته وتعقيداته، وكذا تسريع وتيرة التفعيل، بدلا من البقاء في دوامة التنظير والتقعيد.
ونؤكد أن نضج الفكر المقاصدي لا يتم إلا في أتون التحديات الواقعية؛ وتحديدا التحدي السياسي.
يتفق العديد من الباحثين في الفكر المقاصدي حول ضرورة نقل المقاصد من المدارسة إلى الممارسة، لكن الملاحظ، قبل أن يحصل تراكما كثيرا على مستوى بعض القضايا التطبيقية لاسيما في المجال السياسي، بدأ البعض يحذر من تداعيات إعمال المقاصد؛ في إشارة إلى ما أسميناهم بأصحاب التأويل الحر للنص الديني، أو “المؤولة الجدد للمقاصد”، في مقابل ذلك أصحاب التيار الحرفي أو الظاهري، أو “المعطلة الجدد للمقاصد”، أما الاتجاه الآخر “الوسطي” فيقوم بإعمال المقاصد بدون تمييع ولا تعطيل؛ أو بتعبير آخر بلا تسيب ولا تهيب.
ونظرا لإبعاد التوجه المقاصدي، وغياب استثماره في بناء الدولة الوطنية بعيد الاستقلال، والاستغناء عنه لصالح أدبيات الدولة الحديثة كما طبقها الغرب، طُرِح السؤال، عن كيفية تفعيلها ونقلها إلى الواقع الموضوعي، وكيف يتم استثمار آليات الفكر المقاصدي لمواجهة تحديات ضخمة، وقضايا مستجدة، وكيف يتم تلبية رغبات الجماهير الثائرة من أجل الحرية و المساواة والعدالة والديمقراطية والعيش الكريم؟ وما هي القراءة المقاصدية الأنسب لواقع هذه المجتمعات التي تعيش تخلفا على كافة الصعد؟
هل استطاع الطرح المقاصدي المعاصر؛ تلبية أفق انتظار المسلم؟ وهل لدى علماء المقاصد الكفاية لتعقل النصوص الشرعية تعقلا مقاصديا؟ وهل نحتاج حقيقة إلى علم مقاصد سياسي ؟ و هل يمكن أن يتعاضد دور رجل المقاصد مع دور رجل السياسية للنهوض بالدين والسياسة معا؟ هل يمكن اعتبار المقاصد بمثابة لاهوت معاصر للتقدم والتطور والاصلاح؟