لعلي رميت نفسي في مأزق الكتابة، بعد أن اعتذرت عن إدارة حوارٍ ثقافي معه لإحدى الندوات الفكرية، تعللت هروبًا بعدم الجاهزية! فبرغم سعادتي الغامرة أثناء استلامي دعوة المحاورة، إلا أن ثقتي بنفسي تراجعت وقلقي من مواجهة باحث ومفكر وفيلسوف ديني بهذا الحجم اتسع جدًا، فاعتذرت. لكن ها أنا بعد سنوات أجدني واقفة قبالة وعد الكتابة عن كتابه الأخير “مسرّات القراءة ومخاض الكتابة” الصادر عن منشورات تكوين بالكويت 2023 بقلقٍ مختلف، ولكني سأهزم قلقي هذه المرة، وسأخوض التجربة لأن الكاتب غير المغامر ليس بكاتبٍ يعوّل عليه، وأزعمُ بأنني لست كذلك.
سيرة ذاتية توشحت بالفكر الحر والفلسفة الدينية والعمق الإنساني القيمي، كرّست منجزها منذ أربعين عامًا لفلسفة الدين وعلم الكلام الجديد، تجذرت بغزارة الإنتاج بما يفوق خمسون كتابا حتى اليوم، سطّرت صولات وجولات الذات الباحثة والعقلية المفكرة، تقلدت مواقع ثقافية قيادية، وأنتجت إرثًا يبحث في أشد الموضوعات حساسية ووجودية، ارتبطت بالفلسفة الدينية بصفة وجودية. نجحت في التحرر من التقليدية الإطلاقية كما لم تهزمها النسبية السيّالة، فتفوقت وتميزت بالإمساك بمعايير الفكر الحر المتجدد والإنسانية الخلّاقة، وسارت بخطى تصاعدية في سلالم الدين والفكر والفلسفة. الدكتور عبد الجبار الرفاعي، مفكر عراقي، يشغل منصب مدير مركز دراسات فلسفة الدين في بغداد، ورئيس تحرير مجلة قضايا إسلامية معاصرة منذ إصدارها عام 1997 وحتى اليوم، وهو عضو بالمجمع العلمي العراقي. آخر اصدارته: مقدمة في علم الكلام الجديد، الدين والكرامة الإنسانية، الدين والنزعة الإنسانية، الدين والظمأ الأنطولوجي، الدين والإغتراب الميتافيزيقي. وآخرها “مسرات القراءة ومخاض الكتابة ” كفصل من سيرة كاتب.
بدأت رحلته تحت ترنيمات الأم المؤمنة، وسارت بمشقة الولد الحافي الذي يمشي من قرية تتبع مدينة الرفاعي – جنوب العراق – ليصل مدرسة تأسست عام 1959بقرية مجاورة على بعد ستة كيلومترات. الرفاعي الذي لا ينفك يستجلب طفولته باعتراف شفيف بأن الطفل الساكن في أعماقه لم يهرم بل هو في تجدد مستمر، يُعبر بعفوية أنه يرى انعكاس تدين والدته ووالده في رحلته الروحية الوجودية.
الحديث عن سيرة الرفاعي، شيّق جدًا وثري بتنوع مسارات التجربة وعميق بغزارة النحت في الأصول والمفاهيم والبنى التحتية في قضايا الدين والفلسفة. لهذا يأتي هذا المقال، كإضاءة بسيطة على القليل، القليل جدًا مما استخلصه من مسيرته الكتابية فقط وليس الرحلة الكاملة، حيث استندُ الآن على ما ورد في كتابه الأخير، وتبقى أمنية الكتابة عن كامل رحلته طي الانتظار. فما هي الإضاءات؟
أولًا: تأويلية عنوان السيرة الذاتية:
تبدأ رحلة الكاتب بفعل القراءة أولًا، كبذرة أولى تُجذر التجربة المعرفية، وتؤسس بنية تحتية جديرة بترسيخ مشروع الكتابة القادم، وقد جاء العنوان مُتنبهًا لهذه التراتبية في الفعل الثقافي؛ “مسرّات القراءة ومخاض الكتابة” مُعبرًا عن مباهج القراءة وسرورها، في عبارة تشيء برضا يصل حد الفرح والابتهاج، ثم تعطف على فضول المعرفة أي “فعل القراءة” بولادة فكرية أي “فعل الكتابة” يأتي بعد مخاض شديد يُسفر عن كتابة جديدة. وقد عبر الرفاعي في أكثر من موضع عن صعوبة الكتابة لديه، وبهذا العنوان؛ يعطي الرفاعي صنعة الكتابة قيمة عالية باعتبارها فعل جهد واجتهاد، مُبيّنًا بأن الكاتب يجدر به المرور بهذه المراحل لصناعة تجربة جديرة بالثبات والاستمرار، كما ينبه كل الكتاب والراغبين في دخول عالم الكتابة لضرورة تأسيس مبانيهم المعرفية عبر القراءة أولًا. ونلاحظ أسفل العنوان، تعريفًا للكتاب: “فصل من سيرة كاتب” هكذا بلغة الواثق عرّف نفسه بـ “كاتب” وهو الباحث والمفكر والأكاديمي ومدير مركز دراسات فلسفة الدين، فهل كل كاتبٍ كاتب؟
ثانيًا: ملامح الشخصية الباحثة:
لاتخلو كتابة “جادة” من كشف بعض ملامح كاتبها، وهنا أخص “التجربة الجادة” لأن هناك كتابة متنكرة لذاتها، بينما نلمس الانكشاف ظاهرًا في التجارب الوجودية برغم محاولات الإخفاء والتخفي! بيد أن القارئ الحصيف يمتلك حاسته السادسة التي تؤهله لتحسس شفافية الكلمة ومصداقيتها وتفريقها عن مشهدٍ احترافي لكنه مجرد فعل مؤدى لنص جميل. وكقارئ، فأنت أمام سيرة تفتح لك أبوابها المُشرعة عبر أقوالها الشاهدة على ملامحها الشخصية، نذكر منها:
- قلق البحث المعرفي والإيمانيات:
يقول الرفاعي في مقدمته: “لا يفزعني تساؤل العقل، ولا أخشاه على الإيمان، ولم أحرص يومًا على حماية إيماني بتعطيل التفكير العقلاني النقدي، لم تعبث قراءتي وأسئلتي المتواصلة بأخلاقي، ولا بسكينة الروح، ولا بطمأنينة القلب. إن النظرة المتأنية تكشف عن قدرة الطبيعة الإنسانية على استيعاب الأضداد”. لقد وضع يده على بؤرة الخوف وأشار صراحة لقلق الإنسان المتدين، الذي يدفع المجتمعات الأبوية لحجب مصادر المعرفة المختلفة وربما إخفاؤها من مكتباتهم العامة، كي لا تصلها أيدي القراء. غير أن الرفاعي مشى بجسارة على ذلك القلق طيلة أعوامه الفكرية، فرسخ إيمانًا لا يسهل زعزته. لقد فعلت رحلة البحث أثرها البناء والإيجابي على إنسانيته وفهمه للدين أيضًا. ولعلنا في عصرنا الراهن بحاجة لقراءة هذه التجربة على أصعدتها المتعددة؛ وتأمل مآلات الفضول المعرفي المتوازن، فلا توريث جامد للأفكار والمعتقدات البشرية، ولا تأليه للشخوص والنصوص، كما لا انبهار بالسيولة الجارية على كل شيء، بلا قيم ولا محددات موضوعية.
*علاقة ضمير الكاتب بإنتاجه الإبداعي:
في هذا الأفق، يكتب: “الكتابة ضرب من امتحان الضمير الأخلاقي للكاتب، فكما تتطلب الكتابة عقلاً يقظًا تتطلب أيضًا ضميراً أخلاقيًا يقظًا، بعض الكتاب يحاولون خداع القراء عندما يكتبون مغالطات ومراوغات وتمويهات مفضوحة، فليس المهم أن تكون موهوبًا وحاذقًا ومتعلما تعليما جيدا فقط، المهم أيضا أن تمتلك وعيا بالعالم حولك وتكون حكيما، وتمتلك ضميرا أخلاقيا يقظا يحضر بفاعلية حين تكتب”. بهذا السمو العالي يرسم الرفاعي جناحا الكتابة الخلاقة وهي تُحلق ببراعة في فضائها التجريبي، غير منحازة لمصالحها الشخصية ولا متدنية بجريها خلف أوهام ترميها على جمهورها المتلقي كزهور فاتنة الرائحة بينما موبوءة المياسيم وسامة اللقاح. إن الكتابة التي يعنيها المفكر أشبه بتواقيع يختمها الكاتب على نفسه، كمصداق لتجربته الفكرية والثقافية، فما تفصح عنه الكلمات يضمره القلب وتكتنزه الذات، إنها الكتابة بوصفها مرآة لحاملها.
- علاقة الكاتب الرفاعي بقرائه:
تحت عنوان “أنا مدين لكل من يقرأ كتاباتي” يذكر المؤلف بعضًا من مواقفه مع طلابه الجامعيين، ويقول: “من دون قارئ يفتقر النص لانبعاث الحياة فيه، القراءة بقدر ما تحيي النص تجدده عبر الحوار النقدي للقارئ مع النص” فحياة الكاتب كمُرسل تقابلها حياة القارئ كمُستقبل للأفكار، وفي هذا الجسر ضمان بقاء لمسيرة التداول الفكري بين الكاتب والقراء. هذا هو الكاتب الذي يبعث فيك روح التواصل الإنساني العالي، جاعلًا من الفكرة هي محور الدوران، متعاليًا على أوهام الفوقية لبعض المثقفين الذين يصرون على البقاء في أبراجهم العاجية، لغةً وأسلوبًا وتعاملًا، مما يفقدهم تواصل القراء برغم جودة إنتاجهم، غير أن البعد الإنساني والأخلاقي في التجارب الإبداعية له دور هام في تحريك ونشر العمل، وهذا ما يغفل عنه المثقف المتعجرف والمفكر المتكبر.
ثالثًا: مفاهيم حول القراءة والكتابة:
يتطرق الرفاعي لمفاهيم أساسية في رحلة القراءة، منها: “القراءة العشوائية” ويعني قراءة كل شيء وأي شيء، كذلك قراءة ما يزيد المرء في التخبط وتشويه الوعي، أو بهدف جمع المعلومات دون تطبيقها أو تغيير شيء من الواقع. كما يتحدث عن “الكتابة بوصفها تجربة وجود” وهي تعتمد بالدرجة الأولى على مصداقية التعبير وشفافية الكلمة ومكاشفة الأحداث، وهنا يكمن عمقها الوجودي، قائلا: “من يعجز عن اكتشاف طريقه بنفسه يعجز عن الإبداع، وعندما يقودك دليل يعرف الطريق دون أن تكتشفه بنفسك، ستضيع أثمن تجربة اكتشاف في حياتك وتصبح كأنك معاق يسير بغير قدميه”.
رابعًا: استحضار الدروس وتحديث الممارسات:
كنتيجة منطقية لهذه التجربة، يستخلص الدكتور عبد الجبار دروسًا يثري بها قراءه، فيكتب عن: ” الكتابة بوصفها مرانًا متواصلًا” فالكتابة تنمو وتتطور باستمرار التجريب والممارسة المستمرة، كما يشير لقيمة حاضرة في فضاءات الثقافة وساحاته الفكرية وهي الاختلاف قائلًا: “أن نكتب يعني أن نختلف” إشارة لحرية التعبير للكاتب، ونتيجة لتحرره الفكري والثقافي ونظرته الجادة لدوره العضوي. وبرغم حساسية فكرة الاختلاف ومايترتب عليها من خلافات وصراعات بين تيارات وأحزاب إلا أنها أصيلة في الطبيعة البشرية ولها تأصيل علمي، وهنا يأتي دور المثقف في معالجته لهذه الإشكالية ومحاولة العمل على المشتركات الثقافية لحماية الإنسان من العنف والاحتراب باستثمار التنوع والتعددية.
في ختام الحديث عن هذا الكتاب، تجدر الإشارة إلى أنه سلك مسلكًا واحدًا في حياة المؤلف، مُحددًا إياه ” فصل من سيرة كاتب “. وهنا أغتنم الفرصة للتعبير عن رأيي بشكل عام في تصميم السيرة الذاتية؛ أرى إن الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية بسرد قصة حياته، وهو في ذلك حرٌ في انتقاء ما يريده أن يبقى وما يتمنى زواله من ذاكرته بالدرجة الأولى، لأنه يكتب برغبةٍ داخلية وتطوعٍ ذاتي عن نفسه، وبالتالي ليس ملزمًا لكشف كل ما لاقاه وعاشه في حياته، فأولًا وأخيرًا هو إنسان عادي، يتأرجح بين النجاح والإخفاق، والتقدم والتعثر، والصواب والخطأ، والعلم والجهل، والقوة والضعف. وبطبيعة الحال، الناس يتفاوتون في رغبتهم في الإفصاح كذلك قدرتهم على ذلك، ناهيك أنهم قد يتبرأوا من بعض فصول حياتهم بعد حين، وأراه أمرًا مشروعًا كنتيجة لنمو الإنسان وتغيّر أفكاره وقناعاته وأسلوب حياته. وعليه، سواء ضمنت السيرة كل القصة أو فصلًا منها، ستظل إضافة للمكتبة الإنسانية. أما تحديدًا عن الدكتور عبد الجبار الرفاعي فنحن بانتظار بقايا فصول سيرته الزاخرة.