الرفاعي والعظم والخشت: ثلاثة تيارات رئيسية في فلسفة الدين العربية في القرن العشرين
بقلم: د.كاتا موسر “جامعة برن – سويسرا”، ملخص بحث في جامعة برن السويسرية. نشره معهد العلوم الإسلامية بجامعة برن.
ترجمة: د. غيضان السيد علي
تهدف فلسفة الدين إلى توضيح ظواهر الدين ، والتي تعني – تقليديا- الدين المعين تاريخيا والمحدد للفيلسوف نفسه، واستناداً إلى ذلك يمكن إعطاء المزيد من التوجيهات للتلاقي بين الأديان الموجودة اليوم، ولهذا الغرض يتشاور فلاسفة الدين حول تلك المواقف القائمة حول فلسفة الدين الكلاسيكية، سواء كانت عند كانط أو هيجل.
إن مشروعي البحثي يقع في حدود فلسفة الدين، على الرغم من أنني أجعل مهمتي نقدَ النظرة التقليدية وتجاوزها، ولذلك أود أن أضيف مهمة أخرى إلى فلسفة الدين، هي الحوار مع الأفكار الفلسفية حول الدين، تلك الأفكار التي أدلى بها أنصار الديانات الأخرى والتقييم النقدي لمحتواها. ففي مشروعي البحثي أخصص نفسي لهذه المهمة التي تنشد استكشاف المواقف في فلسفة الدين العربية التي تطورت في معظمها ضمن إطار الدين الإسلامي المعتمد تاريخياً.
فلسفة الدين في العالم العربي:
تعد فلسفة الدين تخصص فلسفي حديث نسبيا، إذ ظهرت أول دراسة حولها في عام 1964، وعاد الفلاسفة العرب في ذلك الوقت إلى نظريات فلسفية تدور حول فلسفة الدين، ولهذا يمكننا القول بأنه تخصص يحتاج إلى وقفة فاحصة.
إن فلاسفة الدين العرب يشكلون مجموعة غير متجانسة، يرتبط بعضُها بالبعض باهتمامها ببعض الموضوعات الدينية الغامضة فقط من خلال بعض الأساليب الفلسفية. ولذلك فإني أتعامل – من خلال مشروعي البحثي – مع فلسفة الدين العربية من أجل تصنيفها بطريقة افتراضية. حيث أفترض أن أصنفها على ثلاثة أنواع حسب وجهة نظر وموقف كل فيلسوف:
(1) النوع الدفاعي أو التبريري، وهو ذلك النوع الذي يتصور الدين الإسلامي كما هو معطى، ويبحث عن ما هو غير مبرر ليسعى إلى تبريره، عبر تحقيق عقلانية من خلال المصادر الدينية والمبادئ والمعتقدات. ويعد عبدالجبار الرفاعي (العراق) على سبيل المثال معبرا عن هذا النوع.
(2) النوع الناقد للدين، الذي يعدّ الدينَ عقبةً في وجه تحقيق السيادة المطلقة للعقل، ومن ثم يسعى إلى تحديد إطار الدين أو الحدّ من أهميته. ويمثل هذا النوع على سبيل المثال صادق جلال العظم (سوريا/ لبنان).
(3) النوع الفلسفي النقدي، وهو الذي يتصور الدين الإسلامي تماما كما هو معطى في أدبياته، وهو النوع الدفاعي أو التبريري، إلا إنه يتميز بأنه يتناول مختلف الجوانب الدينية بعقلانية، وعلى وفق المعايير الفلسفية. ويمثل هذا النوع على سبيل المثال محمد عثمان الخشت (مصر).
وفي مشروعي البحثي أهدف إلى التأكد من هذا التصنيف الأولي، وفي حالة وجود خطأ سأعاود وضع تصنيف آخر أكثر إيجازاً وتفصيلا لفلسفة الدين العربية في القرن العشرين، ولهذا سأعمد إلى التعامل مع النصوص العربية التي تتعامل بشكل مباشر مع فلسفة الدين. ولكن، نظرا لأن فلاسفة الدين الذين عادة ما يعملون على دينهم، وغالبا ما يدافعون عن الأهمية الحاسمة لهذا التعادل الشخصي لفعل التفاهم.
كيف يمكن فهم فلسفة الدين العربية؟
من أجل الإجابة على هذا السؤال، وإيجاد ما يوجهنا لفهم ذلك، فإني أعتمد على هيرمينوطيقا هانس جورج غادامر، وعلى التعديلات التي وضعها أنصار التآلف بين الثقافات، كما يسميها حميد رضا يوسفي. ومن المنظور المنهجي، وفي إطار هيرمنيوطيقا غادامر والتأويلية العمومية عند يوسفي في شكل الحوار الذي يستلزم الكشف عمّا هو متوقع من وجوه البحث.
وفي هذا الصدد، أناقش وجهات النظر حول الفلسفة العربية للدين وفي الإسلام، انطلاقا من داخل فلسفة الدين الغربية، فضلا عن موقع مفهوم الذات للفلاسفة العرب من الدين. أما بالنسبة لدراسة نصوص الفلسفة العربية للدين نفسه، فإني أعتمد المناهج البنيوية والنقد التاريخي والتحقيق الفلسفي.
كتب د. فالح مهدي المقيم بباريس، والاستاذ السابق في جامعة فيرساي الفرنسية تعقيبا، بعد مطالعة ملخص بحث د. كاتا موسر:
(د. عبدالجبار الرفاعي احد كبار المثابرين، وله خط فكري واضح، على العكس من د. صادق جلال العظم، اذ كان ينتقل من موضوع الى آخر، دون أن يطور منهجا… مع ان صادق جلال العظم استاذي، فقد تأثرت بكتابه اليتيم متمثلا بنقد الفكر الديني، واستقباله لي في بيروت، اذ استضافني في بيته لمدة أربعين يوما. إنما لا يمثل صادق جلال العظم توجها او مدرسة، كما هو الحال معكم مثلا. “لا أتكلم عن د. محمد عثمان الخشت، لأنني لا اعرف شيئاً عنه”. الرفاعي طوّر منهجا وتابعه، وهذا لم يكن شأن صادق العظم. اتذكر جيدا أن الطيب الذكر محمد اركون قال لي: “ان كتاب نقد الفكر الديني، لا يعتد به”. بل قال اركون اكثر من ذلك ، فقد اشار بيده الى نقد الفكر الديني، وقال لي: ما هذا! انه خالٍ من أي بعد تاريخي. اركون يكره الكتب المثيرة، والتي تكتب في المناسبات. انما يجب الاكتفاء بعبارة “لا يعتد به”، فهي تفي بالغرض. محبتي).
وكتب د. غيضان السيد علي استاذ الفلسفة بجامعة بني سويف بمصر تعقيبا على ما كتبه د. فالح مهدي:
(أتفق كثيرا مع رأي د.فالح مهدي … التبريري يرى تبرير كل ما يبدو غير عقلاني من خلال التأويل، أما النقدي الفلسفي فهو يعالجه من منظور عقلي بحت بعيدا عن مباديء الدين. الفارق كبير، وهو الفارق نفسه بين ليبنتز التبريري وسبينوزا الفلسفي في تاريخ الفلسفة… لا أري أن موقف د. عبدالجبار الرفاعي دفاعي تبريري، يتعامل مع الدين كما هو معطى. أو انه يحاول تبرير ما هو غير عقلاني، كما زعمت الباحثة السويسرية… لو اطلعتم على البحث كاملا فمن المؤكد سيكون هناك رد توضيحي، خاصة ان د.كاتا موسر أوضحت انها على استعداد لإعادة النظر في تصنيفاتها… لكن جهدها بلا شك جهد مشكور ومنصف.. هذا الصدى رائع … مشروع الرفاعي الفكري بدأ يلقى اهتماما كبيرا في مصر في الآوانة الاخيرة … وانا أرى ان هناك ثالوثا رائعا على الساحة العربية اليوم، يتمثل في “الرفاعي- الخشت – طه عبدالرحمن”.. ولذلك أنا أوجه طلابي في مرحلة الليسانس، وفي الدراسات العليا، لتناول إنتاج أصحاب هذا الثالوث الفكري الجاد).
وكتب د. عبدالجبار السعيدي، استاذ الاجتماع السياسي في الحامعة المستنصرية ببغداد تعقيبا، بعد مطالعة تعريب ملخص بحث الباحثة السويدية:
(د. عبدالجبار الرفاعي أصبح الفخر به مضاعفا، شخصيا، ووطنيا، حين يبحث الأوربيون في فكره. عندما يصل فكره الى اوربا موطن الفلسفة الحديثة، فهذا أثر يثير الفخر.. حالما قرأت المنشور أجريت بحثا حول الباحثة والبحث.. أجيد شيئا من الألمانية .. فوجدت أن هذا كان مشروع بحث مهم في معهد الدراسات الإسلامية. وقد نشر منه الملخص فقط في مطلع 2016. وإليكم بعض التفاصيل حول الباحثة د. كاتا مويسر.. بالمناسبة الكاتبة كانت موجودة حينما كنت في لايبزك لإلقاء محاضرة في معهد الدراسات الشرقية هناك عام 2012 غير أني لم ألتقِ بها.. نعم اتفق مع الدكتور فالح مهدي حول إن د. الرفاعي له خط فكري واضح، ولديه إصرار ومثابرة على منهجه.. أما بالنسبة للدكتور صادق جلال العظم فمشكلته تتمثل بموقفه الأيديولوجي الصارم، فقد لبث قابعا في سجنه الايديولوجي الماركسي… “نقد الفكر الديني، وذهنية التحريم، ودفاع عن المادية والتاريخ”، وهي أهم عناوين أعمال العظم الفكرية، كانت نتاجات إبداعية، لكنها كانت صادرة عن رد فعل إيديولوجي ماركسي، وهذا الأخير يبدو ظاهريا ذا منطق حرّ في تحليل الظواهر، لكنه بالنهاية مرتبط بحتميات ماركسية لايتراجع عنها، فهو مثلا ينتقد المنطق السياسي اللاواعي عند الغرب، في اختزاله واقع الشرق الإسلامي، استنادا الى نظرة إنثروبولوجية ثقافية محضة، تحيل الى اختزال ذلك الواقع بالدين او بالإسلام على وجه الخصوص، وهو مايتناغم مع طروحات الجماعات الإسلامية. ذلك النقد بالطبع ينطلق من مسلمات د. صادق جلال العظم الايديولوحية الراسخة. أما د. عبدالجبار الرفاعي فهو لاينطلق من أية مسلمة إيديولوجية، وذلك هو ماجعله حرا في اختيار منهجه الفلسفي والمثابرة عليه).