حكاية النبي موسى والراعي في المثنوي
إيمانُ القلب متوهجٌ عفويٌ يتدفقُ بحميمية بلا تكلّف وافتعال، يتمثّلُ هذا الإيمانُ في حالة من التديّن الرحماني. التديّنُ الرحماني الذي يعيشه معلمو الروح الكبار، يعيشه أيضًا أناسٌ بسطاء، كلٌّ من الصنفين يتذوقُه ويعبّر عنه على شاكلته، وهو أكثر أشكال التديّن حضورًا في حياة العمال والفلاحين وكبار السن والعجائز. في التديّن الرحماني القلبُ هو الطريقُ إلى الله، إنه تديّنٌ تُبهِج الإنسانَ فيه أنوارُ البصيرة، وتسقي قلبَه الطمأنينةُ، وتسكن روحَه السكينةُ. (في الفصل الثالث من كتاب: “الدين والكرامة الإنسانية” تحدثت عن أشكال التدين، ومنها: التدين الرحماني).
أكثرُ الناس البسطاء صلتُهم بالله حيّة متدفقة، يعبدونه كأنهم يرونه، يشتاقون إلى لقائه بتلهف أشدّ من تلهفهم لأبنائهم، يلتقونه بشغفٍ كأنه معشوقٌ يعانقونه، يتحدثون إليه بلغة القلب المشتعلة، لغةُ القلب لا تحضر إلا في تجارب الحُبّ والعشق الصافية في الحياة، وتحضر بأجمل صورها في صلة الإنسان العميقة بالله. لغةُ القلب مباشرة لا تحتفي بالكنايات والاستعارات ولا تختفي خلفَ المجازات. صلةُ الناس، ممَنْ نسميهم “العامة”، الحميمية بالله لا تعبّر عنها إلا لغةُ القلب، تختزنُ هذه اللغةُ حزنَهم مثلما تختزنُ فرحَهم، تُعبِّر عن امتنانهم مثلما تُعبِّر عن غضبهم، تحملُ أشواقَهم بقدر ما تحملُ ضجرَهم، تبوحُ بهدوئهم بقدر ما تبوحُ باضطرابهم، تُعلِن سكينتَهم بقدر ما تُعلِن قلقَهم، وتتحدثُ باتزانهم وهدوئهم بقدر ما تتحدثُ بانفعالهم وتوترهم. تراهم يتحدثون إلى الله تارةً بلغة دافئة رقيقة، وأخرى يتحدثون إليه بلغةٍ جافة حادة، تخلو من أساليب التأدب المتعارَفة في التحدث إليه، وهم على قناعة بأن ذلك من حقِّهم، لشعورهم بالاستئثار بصلةٍ قلبية فريدة يختصّونه بها ويوقنون أنه يختصّهم بأعمق منها، صلة تُعلِن عنها مشاعرُهم بأشواقهم إليه وتلهفم للقائه. يتحدثون إليه بلا تردّد من دون أن يرهبونه، يلومونه بلا حياء كأنهم أقرضوه ولم يسدّد لهم قروضَهم. يعاتبونه بلغةٍ صريحةٍ لا تخلو من عتبٍ بالتقصير في حقِّهم، وأحيانًا يلومونه بغضب، وربما يعاتبونه بأسىً يمتزج بشعور باستئثارهم به دون سواهم، يشعرون بحقِّهم عليه، بل يتمادى بعضُهم في إلحاحه وكأنه أقرض اللهَ أغلى ما يمتلك لكنه تنكّر لعطاياه وتجاهله ولم يوفه دينه.
الجداتُ والأجدادُ والآباءُ والأمهاتُ وكبارُ السنِ من الفلاحين والشيوخ يخاطبون اللهَ كأنهم يرونه، يشعرون أنه أقربُ إليهم من حبلِ الوريد. لا يرون مسافاتٍ بعيدة أو حواجزَ منيعة تفصلُه عنهم أو تفصلُهم عنه، إنه حاضرٌ بجوارهم حيثما تضيقُ بهم الحياةُ، يتحسّسونه في أغلب الحالات معهم، قلوبُهم مرآةُ أنوارِه وتجلياتِ جماله وإشراقاتِ رحمته التي وسعت كلًّ شيء ولم يسعها شيء. يخاطبونه كما يخاطبون مَنْ يقيمُ في قلوبهم، لا توجد أيةُ حواجز بروتوكولية أو رسمية تحولُ بينه وبينهم. يعيشُ هؤلاء حالةَ شهود صافية أحيانًا، لا يتذوقها إلا ذوو المكاشفات الروحية في أسفار الروح إليه. حضورُ الله وانكشافُه لهم أعمقُ منبع يغذّيهم بالسكينة والطمأنينة عندما تفترسهم مواجعُ العيش ومعاناةُ الحياة ومكابداتُها المريرة.
لفرطِ حضوره يغيب ولفرطِ غيابه يحضر، لحظةَ يشعرون بغيابه تتوق أرواحُهم إليه بلوعة، ويستولي على قلوبهم الذعرُ تلك اللحظة. في العراقِ نستمع إلى بعضِهم، يقول بلهجة الجنوب العراقي بلا تردد: “كون أكو درج وأصعد أعاتبك”، بمعنى: “أتمنى وجود سُلّم كي أصعد إليك معاتبًا”، لماذا غبتَ عني هذه اللحظة الحرجة الأقسى وجعًا ومرارة. لولا شعورُهم بحضورِه الدائمِ معهم، أينما كانوا وحيثُما كانوا، لم يخاطبوه بهذه اللهجةِ المباشرةِ المكشوفة، الخارجةِ على أساليب التبجيل في مخاطبةِ العظماء والإعلاءِ من مقاماتهم.
صاغ جلالُ الدين الرومي حكايةً في “المثنوي” ترسم صورةً موحية تتكشّف فيها الكيفيةُ التي ينعكس من خلالها إيمانُ القلب في حالة تديّن عفوي بريء مُتّقِد، يعبّر عنه إيمانُ أحد رعاة الأغنام بروحه الصافية، وكيف طلب من الله أن يحلَّ ضيفًا عنده، كي يتولى خدمتَه وتنظيفَ ثيابه وتمشيطَ شعره.كان الراعي يخاطبُ اللهَ بلغته الساذجة المتخشّبة، وكأنه يتحدث مع أحد زملائه من رعاة الأغنام، لغته لا صلة لها بالفكر وانتقاء الكلمات المهذبة والمجازات والاستعارات والكنايات الجذابة، لغة لا يتكلم فيها إلا قلبُ الراعي وعواطفه، لغة يصمت عندها العقل ويتجلّى الإنسانُ كما هو بلا أقنعة. استهجن النبيُ موسى لغةَ الراعي الغليظة، وانزعج من طريقة تعبيره وحديثه المكشوف مع الله. لحظة استمع النبيُ موسى إلى الراعي وهو يتحدث بهذا الأسلوب المباشر الذي لا يليق بجلال الله وكبريائه، وبّخه بشدّة على ما سمعه من هراء، وحذّره من استعمال لغة فَجّة عند التحدث إلى الله.
نقتبسُ فيما يلي مستخلصًا لهذه الحكاية من المثنوي: (رأى موسى راعيًا على الطريق، وكان هذا يردد: “إلهي يا من تصطفي من تشاء، أين أنت حتى أصبح خادمًا لك، فأصلح نعليك، وأمشّط رأسك! وأغسل ثيابك، وأقتل ما بها من القمّل! وأحمل الحليبَ إليك أيّها العظيم! وأقبّل يدك اللطيفة، وأمسح قدمك الرقيق، وأنظف مخدعك حين يجيء وقت المنام. يا من فداؤك كلّ أغنامي! ويا من لذكرك حنيني وهيامي!”. وأخذ الراعي يردّد هذا النوع من هراء القول. رآه موسى فناداه قائلًا: مع من تتحدّث أيها الرجل؟ فقال الراعي: مع ذلك الشخص الذي خلقنا. مع مَنْ ظهرت بقدرته هذه الأرض وتلك السماوات. فقال موسى: حذار، انك قد أوغلت في إدبارك. وما غدوت بقولك هذا مسلمًا، بل صرت من الكافرين. ما هذا العبث، وما هذا الكفر والهذيان؟ ألا فلتحشّ فمك بقطعة من القطن. إنّ نتن كفرك قد جعل العالَم كلَه منتنًا! بل إنّ كفرك قد مزّق ديباجة الدين! فمع مَنْ تتحدث، أمع العم أو الخال؟! وهل الجسم والحاجة من صفات ذي الجلال؟ إن الحليب يشربه مَنْ يكون قابلًا للنشأة والنماء. والنعل يلبسه مَنْ هو بحاجة إلى القدم… إنّ التحدّث بدون أدب مع خواص الحق، يميت القلب، ويجعل الصحائف سوداء… فقال الراعي: يا موسى لقد ختمت على فمي، وها أنت ذا قد أحرقت بالندم روحي. ومزق ثيابه، وتأوه، ثم انطلق مسرعًا الى الصحراء، ومضى. فجاء موسى الوحيُ من الله “قائلًا”: لقد أبعدت عني واحدًا من عبادي! فهل أتيت لعقد أواصر الوصل، أو أنك جئت لإيقاع الفراق؟ فما استطعت لا تخط خطوة نحو ايقاع الفراق، فأبغض الحلال عندي هو الطلاق! لقد وضعت لكل إنسان سيرة، ووهبت كلَّ رجل مصطلحًا للتعبير، يكون في اعتباره مدحًا، على حين أنه في اعتبارك ذمٌّ. ويكون في مذاقه شهدًا، وهو في مذاقك سمٌّ. إنّني منزه عن كل طهر وتلوث، وعن كل روح ثقلت “في عبادتي”، أو خفت. والتكليف من جانبي، لم يكن لربح أنشده، لكن ذلك كان كي أنعم على عبادي. فأهل الهند لهم أسلوبهم في المديح، ولأهل السند كذلك أسلوبهم. ولست أغدو طاهرًا بتسبيحهم، بل هم المتطهرون بذلك، الناثرون الدر. ولسنا ننظر إلى اللسان والقال، بل نحن ننظر الى الباطن والحال. فنظرنا إنّما هو لخشوع القلب، حتى لو جاء اللسان مجرّدًا من الخشوع. فالقلب يكون هو الجوهر، أما الكلام فعرض، والعرض يأتي كالطفيلي، أما الجوهر فهو المقصد والغرض. فإلى متى هذه الألفاظ، وذلك الإضمار والمجاز؟ إني أطلب لهيب”الحُبّ”، فاحترق وتقرّب بهذا الاحتراق! أشعل في روحك نارًا من العشق، ثم أحرق بها كل فكر، وكل عبارة! يا موسى، إنّ العارفين بالآداب نوع من الناس، والذين تحترق أنفسهم وأرواحهم بالمحبة نوع آخر. إنّ للعشاق احتراقًا في كل لحظةٍ… فلو أنّه أخطأ في القول، فلا تسمّه خاطئًا، وإن كان مجلّلًا بالدماء فلا تغسل الشهداء. فالدم أولى بالشهداء من الماء! وخطأ المحبّ خير من مئة صواب… إنّ ملّة العشق قد انفصلت عن كلّ الأديان، فمذهب العشّاق وملّتهم هو الله. ولو لم يكن للياقوتة خاتم فلا ضير في ذلك، والعشق في خضم الأسى ليس مثيرًا للأسى… فحين سمع موسى هذا العتاب من الحق، هرع وراء الراعي موغلًا في البيداء… وفي النهاية أدرك موسى الراعي ورآه. وقال “البشير” للراعي: إن الأذن قد جاء! فلا تلتمس أدبًا ولا ترتيبًا، وانطق بكل ما يبتغيه قلبُك الشجي! إنّ كفرك دين، ودينك نور للروح! وإنّك لآمنٌ، والعالَم بك في أمانٍ! أيّها المعافى، إنّ الله يفعل ما يشاء، فاذهب، وأطلق لسانك بدون محاباةٍ. فقال الراعي: يا موسى، إني قد تجاوزت ذلك. إنّني الآن مجلل بدماء قلبي! لقد تجاوزت سدرة المنتهى، وخطوت مئة ألف عام في ذلك الجانب! إنّك قد أعملت سوطك، فدار حصاني، فبلغ قبة السماء، ثمّ تجاوز الآفاق! فعسى الله أن يجعل جوهرنا الإنساني نجيّ سر لاهوته… فالآن قد تجاوز حالي نطاق القول. فهذا الذي أقوله ليس حقيقة حالي. إنّك تبصر النقش الذي يكون في المرآة، وهذا النقش صورتك أنت، وليس صورة المرآة. والأنفاس الّتي ينفثها لاعب الناي في الناي، هل تنتمي للناي؟ لا، بل هي منتمية للرجل). “مثنوي جلال الدين الرومي، الكتاب الثاني، أورد الحكاية بعنوان: “كيف أنكر موسى مناجاة الراعي”، ترجمة: محمد عبد السلام كفافي، صيدا – بيروت: المكتبة العصرية، 1967، ص 178 – 185”.