استراتيجيّة إعلاميّة قادرة على تفكيك الرّواية الصّهيونيّة
نعيش في عصر يتفق على رفض الاستعمار الخشن لأنّه منافٍ بكل وضوح لحقوق الإنسان والمواثيق الدّوليّة، لكنّ إسرائيل ذراع استعماريّ خشن أخفى نفسه في ظلّ روايته، المدعومة من الإعلام الغربيّ بكل ما أوتي من سطوة وقوّة.
وبناءاً على ذلك، إذا ما تم دحض وتفكيك الرّواية الصّهيونيّة، ستتكشّف الصّورة الحقيقيّة للاستعمار الاستيطانيّ الصّهيونيّ، وستكسب قضيّة التّحرّر الوطنيّ الفلسطينيّة زخم تأييد الرّأي العام العالميّ، كما حدث مع مسألة الفصل العنصريّ في جنوب إفريقيا. وللتّمكّن من ذلك لا بد من استراتيجيّة إعلاميّة مبنيّة على تحليل دقيق لمفاصل الرّواية الصّهيونيّة، أسباب قوّتها وثغراتها وكيف يمكن توظيف هذه الأمور ضدّها.
الاستراتيجيّة المقترحة في هذا المقال تتكوّن من ثلاثة مسارات.
المسار الأوّل: جذور الرّواية الصّهيونيّة
يكشف هذا الباب عن ثغرة كبيرة في الرّواية الصّهيونيّة، ويدّعي أنّ تظافر الجهود وتوظيف الموارد المحدودة نحو استهداف هذه الخاصرة الرّخوة، من شأنه تفكيك الرّواية وهدمها.
لم تمتلك إسرائيل في مرحلة التّأسيس أسباب بقائها، ولا كِبَر سطوتها على نخبة الغرب، ولا الإمبراطوريّة الإعلاميّة المبرّرة لها، إنّما اعتمدت على شرعيّة ديّنيّة يؤمن بها الصّهاينة والإنجيليّون الآنجلوساكسون، وعلى توظيف مشكلة اليهود في أوروبا، وعلى إرث صراع الحضارات، بذلك حصلت على الدّعم والتّأييد الشعبيّ في الغرب، الّذي بدوره ارتضى سياسات النّخبة، لكنّ الأجيال الشّابة اليوم ترفض أن يبرّر الدّين مختلف أنواع الجرائم، وليسوا مرتبطين بعقدة الذّنب أو بكره المسلمين وعرب، ومن هذا التّغيّر بين الأجيال يمكن استخلاص استراتيجيّة تضرب الرّواية الصّهيونيّة من جذورها.
إنّ رأس الهرم المقلوب في تبرير قيام إسرائيل، هو سرديّتها للتّاريخ المستمدّة من قصّة اليهود في الكتاب المقدّس، حكاية العودة لأرض الميعاد، الّتي نشأوا وترعرعوا عليها في الغرب، وشكّلت وعيهم ومخيالهم وآمالهم تجاه الأرض المقدّسة، وصاغت إدراكهم للمسألة الفلسطينيّة-اليهوديّة، إنّها نبؤة معتنقة اعتقاداً، يتطلّب تحقيقها إزالة الملايين عن الوجود، ومحو سيرتهم المعاشة والمتوارثة عبر الأجيال منذ آلاف السّنين. يرافقها اضطّهاد أوروبا لليهود، وقد وُظّف للتّبرير كامتداد تاريخيّ لمرويّاتهم ودليلاً واقعيّاً عليها. كلّه يأتي في قالب تاريخيّ من صراع الحضارات الّذي اعتُبر فيه اليهود عنصراً غربيّاً.
لكن اليوم تغيّر العالم، لقد ترسّخت مبادئ العلمانيّة في العقل الجمعيّ عند أجيالهم الشّابّة، وطغت على أساطير وخرافات ونبوءات التّديّن. إذ في الجانب الأخلاقيّ، اقتصرت مرجعيّة معانيَ كالفضيلة والحق والخير والعدل والكرامة والإنسانيّة والحقيقة والجريمة والشّر والظّلم على مفاهيم حقوق الإنسان والدّيمقراطيّة والشّرائع الدّوليّة والدّولة القوميّة والمواطنة والموضوعيّة العلميّة… الخ. هو انتقال واضح في الخلفيّة التّصوّريّة للجماهير، وأسس الفهم والمقاربة، والإطار العام التّفسيريّ، وقاعدة الحوار. هذا التّناقض الجوهري الشّديد بين بوصلة الغرب العلمانيّة وهويّة إسرائيل التّوراتيّة، ندركه نحن كمعلومات، وربّما نسرده ضمن كثيرٍ من الحقائق والدّلائل والبراهين، كما ويمكننا أن نستنتج أنّه يمثّل حجر الأساس الّذي بإزاحته تنهار كل أركان الدّعاية الإسرائيليّة تباعاً. نعم إنّ مكوّنها الكليّ صار على هذا القدر من الهشاشة!
لكنّ التّشتّت في مواجهة مكينتهم الإعلاميّة الضّخمة بلا استراتيجيّة ونسق، أودى بنا إلى الغرق في وحل الرّد على الافتراءات اللانهائيّة والدفع للأكاذيب الإمبرياليّة، بينما يمضي عامل الزّمن في تثبيت شرعيّتهم الأمميّة. وفعلاً استغرق الرّأي العامّ العالميّ في النّظر إلى المسألة من زوایا جانبیّة وملفّات جزئیّة، وصار لفھم القضیّة مداخل شتّى، حوّلت البسیط إلى مركّب، والواضح إلى معقّد.
إذن من خلال تلك المفارقة الكليّة تكمُن فرصة استثمار مواردنا القليلة بالضّرب في ذلك المقتل، التّفرّد بهذا المبضع من خلال تركيز وتكثيف خطاب يستهدف كشف وجود المفارقة بحد ذاتها، ثم تفاصيلها وخطورة ما يبنى عليها.
ويسبق ذلك صياغة مفاهيم حولها، كافية وافية العمق والعِلميّة، بسيطة الفهم عمليّة. هي مفارقةٌ تُجمل ما يُعرض للمتلقّي على أنّه “مسألة شائكة”، تزيل عنها التّحريف والتّعقيد والتّزوير، وتبعد عنهم الشّك والتّوجّس والرّيبة والالتباس، كذلك تفضح حقيقة الصّهيونيّة.
المسار الثّاني: وضع المسألة الفلسطينيّة ضمن أُطرٍ أوسع من تراكم المعرفة والخبرة الإنسانيّة.
بما أنّ إسرائيل ليست أوّل حالة استعمار أو احتلال أو إبادة جماعيّة، إنّما سبقتها العديد من الحالات التّاريخيّة، فإنّ إسقاط حالة إسرائيل ومطابقتها على سابقاتها التّاريخيّة، من شأنّه بلورة طبيعتها الحقيقيّة المماثلة لتلك الحالات سواءاً في الممارسة على الأرض، أو في الرّواية التّبريريّة والسّلوك الإعلاميّ.
إذن الاستراتيجيّة الإعلاميّة هنا هي جمع وإحصاء وتوصيف خصائص وسياسات وأفعال الأنظمة الاستعماريّة ودول الاحتلال وآليّات التّطهير العرقيّ عبر التّاريخ ثم الاستشهاد عليها وإسقاطها على حالة إسرائيل، فيرى المتلقّي حجم تطابق كل الحالات السّابقة مع الحالة الّتي يشهد عليها في حياته، وموقفه يؤثّر فيها.
كما تُبيّن بالمقارنة والمشابهة أنّ كل الرّواية الصّهيونيّة وسرديّة الإعلام الغربيّ ليست إلّا تكراراً للرّواية الاستعماريّة والاحتلاليّة الكلاسيكيّة عبر التّاريخ. وأساليبها قلب الحقائق، ونزع الإنسانيّة، وتهمة الإرهاب، وتوظيف الدّين… الخ، فيخلص المتلقّي إلى تصوّر مفاده أنّ إسرائيل حالة استعماريّة استيطانيّة إحلاليّة توسّعيّة مكتملة الأركان، وأنّ دور الإعلام الغربيّ إكسابها الشّرعيّة عن طريق نشر الأكاذيب طوال الوقت. فمن يمارس كل هذه الجرائم يهون عليه الاستمرار بالكذب حتّى يصدّقه النّاس، بينما أخطاء المقاوم المستباح لا تخرج عن كونها ردّة فعل عاطفيّة مبالغ بها وضمن نطاق الثّأر.
وهنا أيضاً تحضر تهمة معاداة السّاميّة بجانب نماذج تاريخيّة مشابهة لها، فهي ليست أوّل حالة في السّياق الغربيّ، حيث سبقتها تهمة المكارثيّة في فترة الحرب الباردة، وتهمة الهرطقة في عصور الظّلام الأوروبيّ فترة التّطرّف الدّينيّ والسّلطة الكنسيّة.
ويأتي ضمن تفاصيل هذه الإسقاطات ربط عاطفيّ بين الفلسطينيّين والمجتمعات الّتي مورس بحقّها الاستعمار والاحتلال والاستعباد والإبادة، كذلك تُبرز قصص وبطولات من رفضوا الخضوع للمكارثيّة الصّهيونيّة خلال هذه الحرب، كلٌ قدّم في مجاله تضحيّة في سبيل الإنسانيّة والمهنيّة والسّلم العالميّ، أفراداً ومؤسّسات ودولاً، وأيضاً يُفتح باب قياس الهويّة الصّهيونيّة على مفهوم الهويّات العنصريّة، وعلاوة على ذلك تُطرح مسألة علاقة المال القذر بالمؤسّسات الإعلاميّة الّتي تتحكّم بعقول النّاس للسّيطرة على النّظام السّياسيّ والاقتصاديّ، وعن علاقة هذه المؤسّسات برجال أعمال يهود، ودورهم في الدّفاع عن إسرائيل في أروقة السّياسة والأعمال والمجتمع… الخ.
بعد هذه الحرب سيكون هناك كم هائل من المواد الإعلاميّة والقصص الإنسانيّة عن الجرائم والأكاذيب والابتزازات الصّهيونيّة، الّتي إذا ما أُحسنّ توظيفها ستغيّر جذريّاً صورة إسرائيل من واحة الدّيمقراطيّة إلى الدولة المارقة والمنبوذة من كل العالم، والّتي لا تكترث للأمن والسّلم العالميّين ولا الإنسانيّة في سبيل أنانيّتها وغطرستها وتغوّلها.
المسار الثّالث: المستعمرة الصّهيونيّة
إنّ الفرق الجوهريّ بين صورة الاستعمار الصّهيونيّ على أرض الفلسطين، وصورة الاستعمار البريطانيّ لجنوب أفريقيا، هو أنّه بمجرّد النّظر إلى لون البشرة، يمكن استنتاج أنّ الأخيرة تمثّل حالة استعماريّة مكتملة الأركان. أقليّة بيضاء تسيطر بالتّقنية والسّلاح والمال على دولة في القارّة السّمراء. بيد أنّ المستعمر اليهوديّ في فلسطين، منذ اللّحظة الأوّلى جعل من مستعمرته دولة، تحت مظلّة التّاريخ المقدّس، وحصل على اعترافٍ دولي بها، واشتقّ من تراثهم عن المنطقة اسماً بليغ المغزى والرّسالة. وفي حالة كهذه، كي يحافظ السكّان الأصليّون على حقّهم بالأرض، عليهم أوّلاً وقبل أي شيء، الإصرار على نعت ذلك الكيان بالوصف الّذي يختصر كينونته الحقيقيّة، أي “المستعمرة اليهوديّة”، وأن يُعمَّم هذا الاصطلاح على أوسع نطاق ممكن، ابتغاء تواطؤ كتلة من المجتمع الدّوليّ عليه، وتشكيل رأيٍ عامٍ يرى إسرائيل مستعمرةً داخل دولة فلسطين. إنّها معركة التّسمية الّتي تعبّر عن آلاف الوقائع والقصص والسّياقات، وتغلق أبواب المجادلات. معركة لا تقل أهميّة وضراوة عن غيرها. ولو أدركها العرب منذ النّكبة، لربّما كتبنا تاريخاً مختلفاً للبلاد.
نحو الاستحواذ على الضّمير الجمعيّ العالميّ، وتفكيك المستعمرة الصّهيونيّة في العالم العربيّ، كحال باقي قضايا التّحرّر الوطنيّ عبر التّاريخ الحديث.
الاقتراح هو تحويل هذه الاستراتيجيّة الثّلاثيّة إلى مشروع إعلاميّ قوامه منظومة عمل متكاملة، وتسميته TDJC وهو اختصار Together to dismantle the Jewish colony
إضافة: مشروع منصّة تواصل اجتماعيّ حقوقيّة-صحفيّة
أحدثت تغطية المؤسّسات الإعلاميّة الغربيّة لمعركة طوفان الأقصى، فجوة ثقة عميقة في الصّحافة الرّأس ماليّة، إثر التّعرّي الفاضح من المعايير المهنيّة، وهذا من شأنه خلق حاجة ملحّة وكبيرة في السّوق الصّحافيّ، ربّما يُحدث تغييراً جذريّاً في المهنة، خصوصاً مع سيطرةِ وسائل التّواصل الاجتماعيّ الّتي خلقت مفهوم صحافة المواطن، وفي ظل تطوّر أدوات تكنولوجيا الذّكاء الاصطناعي في الصّحافة.
ومن جهة أخرى أعادت الحرب الأخيرة التّفاعل والثّقة والعزيمة والتّضامن لقوى العدالة والتّحرّر العالميّة، من حركات وشخصيّات وشباب ومؤسّسات وإيديولوجيّات، وكلّما تمكّنت هذه القوى من تطوير أدواتها، ازدادت قدراتُها على التّواصل والتّوحّد والتّأثير، في سبيل التّموضع كمركز قوّة في كلّ بقعة من بقاع العالم.
وقد لعبت المؤسّسات الحقوقيّة في هذه الحرب دوراً أكسبها أهميّة كبيرة سترفع من أسهمها في المجتمع الدّوليّ.
تقع القضيّة الفلسطينيّة في القلب من كل هذه المعطيات، فهي على المستوى العالميّ صاحبة أكبر قضيّة عدالة وتحرّر، وأكبر مظلوميّة إنسانيّة، وأكبر مسرح كفاحيّ، وأكبر ممارسة عمليّة لصحافة المواطن، وهي الكاشفة عن الوجه الحقيقيّ للنّظام العالميّ وخطابه. أهلها هم المؤهّلون بل المنتظر منهم تقديم أداة/منصّة تواصل اجتماعيّ حقوقيّة-صحفيّة مخصّصة لقوى التّحرّر والصّحافة المستقلّة في كافّة أرجاء العالم، حماية لهم من نفوذ السّلطة والمال القذر والضّمائر النتنة، وتعظيماً لدورهم، وتمكيناً لرسالتهم، ورفعاً لقدرتهم على الوصول.
العرب أكثر شعوب العالم حاجة لوسيلة بديلة يتحدّثون فيها إلى العالم ويندمجون فيه ويوصلون أصواتهم ويشاركون قضاياهم ويتبنّون قضايا الآخرين مساهمة منهم في السّلم العالميّ في وقت هم فيه الأكثر انغلاقاً عن مشاركة في هذه القوى الّتي في جزء كبير من ملفّاتها تشبه حلف الفضول القُرشيّ. وقد قدّمت حماس نموذجاً فريداً في أخلاق الإسلام، واستئنفت أجيالاً واثقة من مرجعيّتها الإسلاميّة، فالإسلام روح دافعة ذات مصداقيّة خالصة، قادرة على تعويض تآكل الحريّة الحداثيّة نتيجة تطاول فوضويّتها وعدميّة فلسفتها.