في وداع الفيلسوف حسن حنفي: الإخواني الشيوعي الذي أصبح فيلسوفا.(3).
كتب الأستاذ حسن حنفي، رحمه الله، كتابين مهمين، من المنظور التأريخي لأفكاره، ومن منظور الرغبة العلمية في الفهم المتعمق لأطروحته حول (اليسار الإسلامي). ويمثل الكتابان جزءا أساسيا من موسوعته: (الدين والثورة في مصر، 1952-1981)/ في8مجلدات. الكتاب الأول/ المجلد الخامس في الموسوعة، يرتبط بالمرحلة الأولى في علاقة الدين بالثورة. وأبرز شخصية ممثلة لهذه المرحلة بعد اغتيال حسن البنا، هي: سيد قطب. وعنوان الكتاب: (الحركات الدينية المعاصرة). ويرتبط الكتاب الثاني/ المجلد السادس في الموسوعة بالمرحلة الأخيرة في علاقة الدين بالثورة، من منظور أطروحة الأستاذ حنفي في الموسوعة، واختياره المنهجي والتحليلي لمرحلة 1952-1981. وأبرز شخصية ممثلة لهذه المرحلة، هي: خالد الإسلامبولي، الذي اغتيال أنور السادات في حادث المنصة المعروف في التاريخ السياسي المصري المعاصر، سنة 1981. وعنوان الكتاب:( الأصولية الإسلامية). وهو مرافعة فكرية وفلسفية وقانونية للدفاع عن خالد الإسلامبولي ورفاقه، كتبها الأستاذ حسن حنفي.
ودرس الأستاذ حنفي فكر سيد قطب وعلاقته بشخصيته، وسياقات التشكل لأطروحته، وأثرها على الحركات الإسلامية بعنوان دال جدا؛ هو: ( أثر الإمام الشهيد سيد قطب على الحركات الدينية المعاصرة).( الحركات الدينية المعاصرة، ص167). لقد انطلق الأستاذ حنفي من تحليل فكر سيد قطب، أو( فكر الإمام الشهيد ، كما يسميه) من الربط بين مؤلفاته، وبين المواقف النفسية والاجتماعية التي مر بها، من دون الالتفات إلى المواد الثانوية في البحث والتحليل، مما يكتبه عنه الآخرون، سواء كانوا خصوما أو مريدين. كما استند الأستاذ حنفي إلى الملاحظة المباشرة، وإلى التجارب المعاشة، بحكم المجايلة بين سيد وحنفي.
ميز الأستاذ حنفي بين أربعة مراحل في فكر سيد قطب؛ مرحلة أدبية، ومرحلة اجتماعية، ومرحلة فلسفية، ومرحلة سياسية. وهي مراحل تعبر، بنظر الأستاذ حنفي، على مراحل من التاريخ الثقافي والسياسي المصريين، مما عايشه سيد قطب وأثر فيه، كما أثر فيه طه حسين والعقاد، وغيرهم. وهي مراحل متداخلة، ومتفاوتة في الطول وفي القصر، كما أنها متفاوتة في التطور، أو قل : في الدلالة على التطور أو التوقف، أو على النكوص والارتداد.
لقد امتدت المرحلة الأدبية من 1930إلى1950، وكانت أطولها. وفي هذه المرحلة كان سيد قطب جزءا من الحركة الثقافية والأدبية في مصر وفي العالم العربي؛ فقد كان مشاركا في المعارك الأدبية والثقافية التي شهدتها مصر. واشتبك مع طه حسين عندما صدر كتابه: ( مستقبل الثقافة في مصر)، 1938. وكان سيد أديبا وناقدا وشاعرا متنوع الإنتاج؛ فقد ذكر له الأستاذ حنفي إنتاجاته المميزة في النقد الأدبي؛ مثل: ( مهمة الشاعر في الحياة)، 1932، و( النقد الأدبي، أصوله ومناهجه)،1937، وبعض إصداراته الشعرية؛ مثل( الشاطئ المجهول)،1934، وروايات( المدينة المسحورة)، و(أشواك)، و( الأطياف الأربعة)، وسيرته الذاتية، الجزئية، ( طفل من القرية)، 1945. كما ذكر الأستاذ حنفي أخطر كتابين لسيد قطب، لاينتميان حصرا، إلى المرحلة الأدبية، بل إلى كل المراحل، على طابعهما الأدبي التحليلي الظاهر من عنوانيهما؛ وهما: كتابا:( التصوير الفني في القرآن الكريم)، 1945، وتطبيقات نظريته في ( التصوير)، في كتاب ( مشاهد القيامة في القرآن). لقد كان سيد قطب، في هذه المرحلة، بنظر الأستاذ حنفي، من قادة حركة الأدباء الشبان الذين يبحثون لأنفسهم عن مكان وسط هيمنة الرموز والأعلام؛ مثل طه حسين. وكان سيد قطب يبشر بمفهوم للشعر والإبداع أوسع من العلم والفلسفة. وكان معجمه الأدبي مكتنزا بمفاهيم وجودية؛ مثل: الجسم، والعقل، والروح، والزمن، والوحدة، والموسيقى، والتصوير، والمجهول، والخيال، والحلم، والوجدان، والغربة، والغريب، والموت… ويتضمن ديوانه قصيدة وجودية، بعنوان: الغريب؛ وتشم في هذه القصيدة، رائحة غريب أبي حيان التوحيدي(923-1023)، في كتابه( الإشارات الإلهية)، وغريب ألبير كامي Albert Camus، 1913-1960، في روايته: الغريب L’Étranger، وليس بعيدا نفسه الشعري في هذه القصيدة عن الحديث النبوي:( بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء ). وبدا معجم سيد قطب في هذه المرحلة متخففا من ( المصطلحات الإسلامية). وكانت أشعاره ذات موضوعات وطنية وقومية؛ أي نفس الموضوعات التي كانت سائدة في شعر الرواد؛ مثل حافظ إبراهيم والعقاد… وتجسد روايته ( المدينة المسحورة) ارتباطه بثقافة مصر القديمة، ويفسر الأستاذ حنفي هذا الارتباط بأثر جمال الدين الأفغاني على الطبقة المثقفة في مصر ودعوته الشهيرة: ( مصر للمصريين)، ومجهودات: الطهطاوي، ولطفي السيد، وطه حسين، والعقاد… في هذا الاتجاه. و( المدينة المسحورة) مدينة عظيمة في مصر القديمة وقعت فيها قصة حب وانتقام، وهي قصة تحكيها شهرزاد لشهريار. ويشير الأستاذ حنفي إلى أن هذه الرواية، على ما فيها من سرد حكائي/روائي بمادة وشخوص وأساليب قديمة، فإنه تحمل نفسا تساؤليا شكل مادة رمادية لشخصية سيد قطب؛ ومن التعابير الدالة على ذلك في الرواية: ( أين الطريق؟)، و( لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا)، وهي تعابير تختزل صور البحث عن الطريق. وقد ألف سيد قطب لاحقا كتاب ( معالم في الطريق) الذي دفع حياته ثمنا له، بتعبير الأستاذ حسن حنفي.
لقد سعى الأستاذ حسن حنفي إلى تتبع بذور ( التصور الإسلامي) في هذه الكتابات الأدبية الأولى لسيد، وهي كتابات أهملها الدارسون والباحثون في البدايات الأولى لتشكل الحركات الإسلامية، مما انتبه له الأستاذ حسن حنفي، وأنجز بصدده أبحاثا معمقة في الموضوع. ويذهب الأستاذ حسن حنفي إلى أن رواية ( المدينة المسحورة) عبرت على كفاءة سيد قطب الأدبية، وعلى امتلاكه أدوات الفن الهندسي المتقن، في ترتيب العلاقات بين: الخير والشر، والحب والانتقام، والحياة والموت، والاسترسال في تصوير نزوعات الخير، وتصوير أن الحب لا يعرف التفرقة الطبقية، وهو الذي ينتصر على ملك المدينة في النهاية. ويذهب الأستاذ حنفي إلى أن هذه الترتيبات السردية والحكاية، سواء في رواية( المدينة المسحورة)، أو في رواية (أشواك)، وفيها قصة عاطفية ذاتية لسيد قطب، انتهت بانفصاله عن رفيقة عمره، لكنه أهداها لها، سيشكل هذا النمط السردي البذور الأولى ل( التصور الإسلامي) الذي سيشيده سيد قطب، وسيلهم الأستاذ حنفي.
عندما يحرص الأستاذ حنفي على إدخالنا في العالم الروائي لسيد قطب، وينقل لنا، مثلا، وصفه للعلاقات العاطفية في رواية ( أشواك)؛ وصف الصدور، والرؤوس، والشعور، وحالات الغزل، والتوتر؛ والغضب، بين الحبيبين؛ بشكل فني فيه قدر كبير من التحرر، والعمق الإنساني، إنما يريد أن يبرز لنا شخصية مبدعة رقيقة ودقيقة، في الإحساس والتعبير، عكس مايصوره الباراديغم الإعلامي الرائج والمتحيز ضد سيد قطب، و الذي يصوره كائنا ( إرهابيا) هو المسؤول الأول عن صناعة التطرف والمتطرفين!! هذا البعد الإنساني، والثوري، كما سنرى لاحقا، هو ما ألهم الأستاذ حسن حنفي في شخصية سيد.