في العلاقة بين الاعتقاد والحجاج
لماذا نفشل في إقناع الآخرين بتغيير معتقداتهم رغم ما يمكن أن نوفره لهم من حجج قوية تدحض معتقداتهم وتفندها؟ لماذا يعجز الإنسان أحيانا كثيرة عن مراجعة معتقداته ويتمسك بأفكاره القديمة رغم تبينه لضعفها وتهافتها بالحجة والبرهان؟ ولماذا يستمر المرء في الانحياز إلى “الخطأ” ولا يرضى بالتنازل للتفكير في حجج الآخر ويواجهها بالرفض بل بالقمع والإقصاء أحيانا؟
لقد واجهنا جميعا حالات كهذه، كما نجد أمثلة عنها تاريخيا في حوارات الأنبياء مع المشركين (قصة إبراهيم مثلا)، وفي المناظرات الفلسفية والعلمية والسياسية قديما وحديثا؛ ورغم كل ما يدعيه الإنسان عادة من ميل إلى مشاطرة المعارف والبحث عن الحقيقة والصواب والقبول بالحجة الدامغة؛ فإن تغيير “وجهة النظر” والتسليم بالرأي المخالف أمر صعب، لا تنفع معه معرفته بتقنيات الحجاج وأساليبه، ولا إيمانه بقواعد المنطق والاحتكام إلى العقل؛ لأن اعتقاداته غالبا ما تكون منظمة تنظيما مؤسسيا، في شكل منظومة من المعتقدات المتلاحمة والمتعايشة التي تضبط انسجام المرء نفسيا واجتماعيا، وتؤسس لنظرته إلى الحياة والكون والوجود، وعليها تنبني قيمه الأساسية وطرق إدراكه للمفاهيم.
إن أي تغيير في وجهة النظر المعرفية في مجال العلم والفكر هو بالضرورة تغيير في بنية الاعتقاد والحجج التي يلتزم بها المرء لتبريرها، وفي نظم القيم التي يؤمن بها والتي تحرك سلوكاته وانفعالاته؛ فهي مسألة فهم لكيفية بناء المعرفة وتطورها مع تراكم ملاحظات، تتناقض أحيانا مع ما هو سائد لكن مع الحفاظ على تماسكها وانسجامها الداخلي. وكذلك الأمر في الحياة اليومية، عند اكتساب معلومات جديدة قد تجعلنا نغير رأينا، أو تدفعنا إلى تغيير عناصر الاعتقاد ذاته. ففي هذه الحالة يتبع الإنسان”العقلاني” مبدأ الحد الأدنى من التغيير ويسعى إلى الحفاظ على معتقداته “الأكثر تجذرا”. وقد أثبتت الدراسات المعرفية النفسية والمنطقية أن مراجعة المعتقدات ليست مجرد استقبال للمعلومات السلبيةأو النقيضة بل إنها تشارك مشاركة حجاجية نشطة؛ إذ نتبادل معتقداتنا عبر التفاعل مع الآخرين.
وغالبا ما يرتبط مفهوم الاعتقاد بالمعتقد الديني؛ ففي الدين، يرتبط الاعتقاد بالإيمان: أي التزام شخصي دائم بالاعتقاد. وفي النزعة التجريبية المنطقية، يُنظر إلى “الاعتقاد” على أنه موقف تجاه قضية لدينا مبررات عليها (أي قضية اعتقادية) ولكنه ينتظر الحكم على قيمته الصدقية: إذ يمكنك أن تؤمن بشيء، ومع ذلك قد يكون كاذبًا. فإذا تبين لك، “عقلانيا”، أن القضية كاذبة، يتوجب عليك التوقف عن الاعتقاد بها. وقد برزت لدى اللغويين والبلاغيين العرب القدماء بعض المحاولات اللغوية البديلة التي سعت للخروج من دائرة المنطق ثنائي القيمة الذي يكتفي بالثنائية المعروفة (الصدق والكذب)، للحكم على القيمة الصدقية للأقوال (الخبرية تحديدا)، رغم ما تثيرها من إشكالات دلالية ومنطقية، ولكنهذه المحاولات لم تفز بقبول الجمهور؛ ونعني بها على الخصوص اقتراحات كل من شيخ المعتزلة في عصره إبراهيم النظام (231هـ) وتلميذه الجاحظ (255هـ)، إذ ينقل عنهما البلاغيون المتأخرون ما يدل على أنهما كانا من أوائل من تعرض لهذا الموضوع، وقدما فيه اقتراحات بديلة، أو إن شئنا الدقة تعديلات على التصور السائد والشائع:
تصور النظّام: يرى هو ومن تابعه بأن صدق الخبر هو مطابقته لاعتقاد المخبِر به ولو كان خطأ غير مطابق للواقع، وكذبه عدمها؛ أي أن الاعتقاد عنصر ثابت في عملية الإخبار بغض النظر عن صدق الوقائع العينية للمحتوى القضويcontenupropositionnel([1])؛ فإذا قال قائل مثلا: «الأرض مسطحة»؛تكون العبارة صادقة إذا طابقت اعتقاد الكلام، وتكون كاذبة إذا خالفته، حتى لو كان الواقع الخارجي يشهد بكذبها، لأن الأرض كروية. وهذا بنظرنا يحدث خللا في العملية التواصلية، لأن إلقاء الخبر لا يكون الغرض منه التصريح باعتقاد المتكلم في صدق ما يقول فقط، وإنما يقصد أساسا إلى أن يوصل هذا الاعتقاد إلى المخاطب؛ فما يهم تداولياهو رأي المخاطب وكيفية حكمه على الخبر والمخبِر.
تصور الجاحظ: وقد أدخل تعديلات على تصور أستاذه النظام لأقسام الخبر؛ إذ ينكر مثله انحصار الخبر في قسمين فقط، ويزعم أنه ثلاثة أقسام: صادق، وكاذب، وغير صادق ولا كاذب؛ فالصادق هو المطابق للواقع مع اعتقاد المخبر له، والكاذب هو غير المطابق مع عدم الاعتقاد، والقسم الوسط بين الصادق والكاذب هو المطابق مع عدم الاعتقاد وغير المطابق مع عدم الاعتقاد.
أما فساد الأخذ بالاعتقاد حسب الجمهور، فيتجلى في خروجه على قانون الأحكام العقلية؛ إذ لا يتصور وجود واسطة بين النفي والإثبات، ولو ثبت ذلك لكان فيه خروج عن القضايا العقلية بإثبات الواسطة بينهما، وهو محال لأنه ينقض مبدأ مهما من مبادئ المنطق الأرسطي، هو مبدأ الثالث المرفوع. وهو التصور الذي صار متجاوزا في الدراسات المنطقية الحديثة، وصار بالإمكان القول بوجود منطقة أو مناطق وسطى بين قيمتي الصدق والكذب.
ولكن قد يكون المفهوم الفريد للاعتقاد (بتمييز الصدق عن الكذب) غير كافٍ لتحليل ما يحدث للناس في تفاعلاتهم الحجاجية مع بعضهم البعض. ففي وضعية المناظرة مثلا، تخضع أفكار المتناظرين (أي المعرفة)، للبناء المشتركمن خلال فرضيات. وغالباً ما يقدم المتناظرون على التفاعل بمعتقدات متفاوتة في الرسوخ، تبعا لطبيعة القضية أو الدعوى المطروحة للتداول والاستدلال. فهي بالأحرى مسألة فهم دائمة التغير خلال التفاعل. وقد قدم الفيلسوف ج. ل. كوهينJ. L. Cohen (1923-2006) في كتابه الهام “مقالة في الاعتقاد والتسليم” (1992)، الذي قام فيه بفحص أسس الافتراضات عند الناس، وآمن بالصحة المبدئية للتفكير البشري إجمالا حتى لو لم يستطع تحقيق الكمال المطلق، تفرقة قد تكون مفيدة هنا بين الاعتقاد والتسليم. فما نعتقده يتحدد إلى حد كبير من خلال الخبرة الإدراكية؛ إذ لا يمكننا عادة أن نقرر أن نعتقد أو لا نعتقد،لكن يمكننا أن نقرر التسليم ببعض الافتراضات، ربما “بقدر ما تنطبق” على الحالة؛ فالتسليم خطة للوصول إلى استدلال مشترك. ومن ثم، قد يكون المتناظرون مقيدين بمنطق الجدلية للتسليم بحجة مطروحة من شركائهم؛ وهذا يعني أنهم سيلتزمون باستخدام هذا الافتراض منطلقا لمزيد من الاستدلال المشترك. وهذا يتناسب إلى حد ما مع نظرية التداولية الجدليةPragmatique dialectique، التي تعتبر حوار الحجاج مسألة التزام اجتماعي عام بما قيل وليس بما يعتقد به بالضرورة (بصورة شخصية).
بيد أن هذا لا يعني “حل مشكلة” كيفية تغير مواقف المتناظرين وحججهم ووجهات نظرهم نتيجة للحجاج، ولكنه يقدم طريقة مختلفة للنظر إلى المشكلة؛ ففي ظل أي ظروف تصبح فيها المقترحات التي يقبلها المتناظرون خلال التفاعل الحجاجي جزءا من وجهات نظرهم ونظم اعتقادهم؟ قد نجد الحل فيما تطرحه نظرية “التنافر المعرفي”؛إذ يرى عالم النفس الاجتماعي الأمريكي ليون فستنغر Leon Festinger (1919-1989) أن هناك ميلا لدى الأفراد لأن تكون معتقداتهم وآراؤهم منسجمة. وفي حالة فقدان الاتساق بين المواقف أو السلوكيات، يجب تغيير شيء ما لإزالة التنافر، حفاظا على انسجام الذات، وفي حالة وجود تعارض بين المواقف والسلوك، فمن المرجح أن يتغير الموقف لاستيعاب السلوك، وإلا أصيب المرء باضطرابات نفسية، فيتولد لديه شعور بالنفور من الاختلاف والتناقض، فيحاول الابتعاد عن دائرة الصراع التي تسبب له الضيق النفسي. وعندما يرفض الفرد المعلومة الجديدة ويحصر نفسه في معتقداته المسبقة،فإن كل مناقشة يقوم بها مع المعلومة المتنافرة لا تكون مناقشة منطقية، بحيث إنه يقدم حججاتؤيد قراره، ولا يسمح لنفسه بأن يفكر بشكل منطقي وينغلق على نفسه رافضا الأفكار المخالفة، ويعمل فقط على ترسيخ قناعاته القديمة.
ففي مناظرة افتراضية بين شخصين أحدهما (أ) يؤمن بالداروينية الجديدة، وآخر (ب) يؤمن بنظرية الخلق الإلهي للكون والحياة، هل يمكن للحوار الحجاجي بينهما أن يغير من أفكارهما وقيمهما، ويؤسس لوجهات نظر جديدة؟ هل يمكن لحوار واحد أن يدفع (ب) إلى إيلاء أهمية لما تقوله النظريات العلمية، ولـ (أ) أن يقدّر ما تؤمن به الكتب المقدسة حول الخلق؟ بلى تتغير الأفكار والقيم، ولكن على نطاق زمني مختلف وطويل من التفاعل الاجتماعي الفردي (ولنُنَحِّ هنا جانباً مسألة “التنوير” المفاجئ الذي يقع للبعض). فغالبًا ما ترتبط التغيرات في المعتقدات والقيم بالتغيرات الكبيرة في المجتمع على المدى المتوسط أو الطويل أو بأحداث درامية مثل الحرب أو بالاتصال الوثيق بثقافات أخرى. وما يقدمه هذا هو ضرورة أخذ زمن التفاعل بعين الاعتبار، مرتبطا في حينه بـنطاق زمني أطول. وقد يحدث ذلك متأخرا (ربما بعد أسابيع)، وقد لا تحدث تغييرات ملحوظة بعد التناظر، ولكن من الممكن، وبما لا يمكن ربما التنبؤ به، أن “يتردد” ما قيل خلال الحوار في عقول المتناظرين وينتج آثاره في وقت لاحق.
وهكذا، يمكن تعديل أي معتقد علمي، ولتوضيح إعادة البناء المستمرة هاته، يقارن الفيلسوف أوتونيوراثOtto Neurath(1882-1945) المنطق العلمي بعمل البحارة الذين يجب عليهم إصلاح سفينتهم في البحر باستمرار بينما هم مستمرون في الملاحة.وعندما تكون المعلومات الجديدة، غير متناقضة مع معتقداتنا الأصلية، تتم إضافتها من خلال عملية الربط التقليدية، وتكون الأولوية ضمنيا للمعتقد الأولي، الذي لا يوضع موضع تساؤل وغالبا مايستمر المرء في الاعتقاد به في نهاية عملية المراجعة.
ويتم تنفيذ عملية المراجعة عندما تتناقض المعلومات الجديدة مع مجموعة المعتقدات الراسخة لدى المرء، وفي هذه الحالة يضطر إلى التخلي عن معتقدات معينة للحفاظ على توافق نظامه القيمي. ويترتب على هذا أن هذا التغيير ليس رتيباً طالما أن المعلومات تضاف إلى مجموعة المعتقدات دون أن يتم الحفاظ بالضرورة على القديم منها.ويتم تلخيص عقلانية مشغل المراجعة في هذه النقاط: إذ يجب أن تكون مجموعة المعتقدات الجديدة بعد عملية المراجعة متسقة، ويجب أيضا أن تكون المعلومات الجديدة صحيحة ضمن مجموعة المعتقدات الجديدة. وبعبارة أخرى، يجب ألا تسبب المعلومات الجديدة تناقضات في مجموعة المعتقدات، وإلا كانت الأولوية للمعلومات الجديدة. وبالإضافة إلى هاتين النقطتين، هناك الحد الأدنى من المراجعة؛ إذ يجب إجراء عملية المراجعة مع الحفاظ على الحد الأقصى من المعتقدات في المجموعة القديمة.
ولا نقصد على الإطلاق أن نقترح أن التفاعل الحجاجي عادةً أو دائمًا ما يؤدي إلى أن يصبح المتناظرون أكثر انفتاحًا في وجهات نظرهم، بل على العكس تمامًا. ففي العديد من الحالات، يمكن أن ينساق المتناظرون إلى الانغلاق داخل ذواتهم، كرد فعل دفاعي على ما يتصورونه هجومًا شخصيًا. وبالتالي، فإن التحدي الذي يواجهنا هو فهم الظروف التي يمكن للمتفاعلين في حوارات حجاجيةأن يفتحوا أنفسهم بشكل حقيقي لآراء بعضهم البعض.
وخلاصة القول إن أي تغيير في بنية الاعتقاد، يعني أولاً تطوير طائفة واسعة من الحجج (والحجج المضادة) لرؤية المرء عبر مجالات معرفية مختلفة، ومساءلة نظام قيم الفرد على المدى الطويل، والوصول إلى موقف أدق فيما يتعلق بالأسئلة والإشكالات التي تطرحها معتقداته، بتخطي صرامة التمييز بـ “مع” أو “ضد”؛ ويعني ثانيا، إعادة صياغة مفهومية لمجال الخطاب خلال التفاعل الحجاجي مع أطراف أخرى لا تشارك المرء معتقداته؛ ذلك أن تحديد المفاهيم بشكل دقيق متفق عليه يسهم في الخروج من شرنقة الاعتقاد المضلل ويدفع إلى مزيد من الانفتاح قد ينجم عنه في نهاية المطاف تعديل في المعتقدات الخاطئة والقبول بمنظورات جديدة في التفكير والرؤية، على الرغم من أن هذا الأمر قد يعيدنا إلى مشكلة لا حل لها حول متى وكيف يمكن للتسليم بما هو مقبول في التفاعلات الحجاجية أن يغير معتقدات شديدة الرسوخ، وإلى أي حد يمكن للمرء فعليا أن يستمر في الالتزام بـ”معتقداته” الجديدة، والصمود في وجه ضغوط “معتقدات” البيئة المحيطة به.
[1] المحتوى القضوي هو، إجمالا، ما تعبر عنه العناصر الإسنادية للجملة من مضمون بغض النظر عن الأسلوب أو الصيغة؛ فالجملتان: “سأزورك غدا” و”انتظر زيارتي غدا” تعبران عن المحتوى القضوي نفسه رغم اختلاف الأسلوب والقوة التكلمية (الإخبار أو الوعد)، الموظفة لإنجازهما. وهكذا فإن:دلالة الملفوظ = القوة التكلمية + المحتوى القضوي.