عبد الله كنون .. المقالات المقدسية
من فوارق الكتابة التي ميزت دوما لحظات صدور مؤلفات صاحب “النبوغ المغربي” علامة المغرب الأقصى “عبدالله كنون” (1908-1989)، أنها تجيء دوما “علَى قَدَرٍ”، في لحظات الغضب المقلقة، وحين تجف الأقلام وتُلجم الألسن، لتكسر قدر الصمت وتنافح عن الحق وقيم الإسلام والعدالة، والتذكير بماض من الفخر لا يمكن أن نخونه!. هذا السياق الموصوف هنا، واحد من الصور التي يمكن أن نصف بها لحظة صدور كتاب “جمهرة مقالات العلامة عبد الله كنون: تسعون مقالة حول فلسطين والمسجد الأقصى” (2024-سليكي أخوين).
عندما ألف كنون النبوغَ (1938)، سارع المستعمر الفرنسي آنذاك لحضره، لا لشيء إلا لأنه يوثق الذاكرة الأدبية للمغاربة، ويذكرهم بالنبوغ الذي ميز سلفهم فوق أرض المغارب، ولعل الأقدار قد اختارت كنون لهذا المصير منذ أن غيرت أسرته وجهتها من السفر للشام إلى الاستقرار في طنجة الدولية بسبب الحرب العالمية الأولى، فصار تحت قبضة الحربين، فلم يكن خياره للانفكاك من يد الزمن الرهيبة تلك، إلا قلمه الرشيق وخطبه الرنانة وإسهامه في تأسيس مدارس التعليم الحرة التي كانت واجهة الوطنيين البارزة.
وعليه، فقد أحسن جامع ومعد الكتاب السيد أحمد عطوف، اختيار لحظة إصدار هذه المقالات، لأنها تذكرنا بمواقف وجهود علماء المغرب تجاه القضية الفلسطينية، وتذكرنا بمواقف واحد من أهم رموز الأمناء العامين لرابطة علماء المغرب، والتي صار اسمها الآن “الرابطة المحمدية لعلماء المغرب” (منذ تأسيسها سنة 1961 إلى وفاته في 1989)، بدءا بتأسيسه (الجمعية المغربية لمساندة الكفاح الفلسطيني) التي كان على رأسها، مرورا بكل البيانات والتوصيات والمواقف التي أصدرها باسم الرابطة (حسب انعقاد مؤتمراتها منذ 1962 إلى 1987) والتي كان فيها جامعا بين حس الفقيه الملتزم والأديب والسياسي والوطني المقاوم، وأهمها حس المسلم الغيور على مقدسات المسلمين وحرمتهم وكرامتهم.
لك أن تخلص بعد جولة فاحصة في مقالات صاحب النبوغ، أنه ليس عبثا أن ولّدت الحضارة الإسلامية فئة علمية بارزة في الشأن والمجال الديني العام، ومكنتهم بدعم من الشعوب المسلمة تولي مكانة الإفتاء والحرص على مصالح الناس والأمة. ولذا، كانت هذه الغاية النبيلة ترخي دائما بسطوتها على كل من تصدى للريادة في هذا المجال، وتمنع إجماعهم على الخذلان أو الخيانة!، فكان كنون أحد هؤلاء المعاصرين وجوهرة تعتلي تاج جمهرتهم.
في مقالة ملفتة “رجال في مستوى المسؤولية”، ينبهنا كنون لوقفة اليهود الأمريكيين مع الصهاينة، وتأثيرهم في سياسات الولايات المتحدة الأمريكية، وكيف أسقطوا عضو الكونجرس البارز “بول فندلي” سنة 1982 بعد انتقاده لسلوك اعتبره سابقة في السياسة الأمريكية، عندما استدعى الرئيس ريغان أعضاء اللوبي الإسرائيلي إلى البيت الأبيض للتفاوض معهم حول السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، والأدهى من ذلك حسب كنون، تعليق فندلي على إرجاع “والتر مونديل” مرشح الديمقراطيين للرئاسة، الأموال التي تبرع بها العرب الأمريكيون لحملته، معتبرا ذلك إهانة لمجموعة من الأمريكيين العرب الشرفاء.
تنبه كنون حينها بأن الدور العربي الإسلامي لم يكن في مستوى المنافسة والضغط السياسي المطلوب، وإلا لما تناسى – بعبارته – الأمريكيون القضية العربية الإسلامية الأولى. وفي السياق ذاته، يوثق لموقف ولي العهد السعودي “الأمير عبد الله” حينما ساند حق اللبنانيين في (إلغاء الاتفاق الإسرائيلي واعتبار الفلسطينيين عربا في أرض عربية بخلاف الإسرائيليين)، الأمر الذي دفع الرئيس ريغان، يعلق كنون، إلى التنصل من المسؤولية، والتصريح بأن أمريكا ليست طرفا في الموضوع.
ومن الأشياء الأكثر إثارة في هذه المقالة، كيف أدمج كنون استجوابه الصحفي في إحدى العواصم العربية، جوابا على سؤال لأحدهم حاول التقليل من فعالية “المسيرة الخضراء في استرجاع الصحراء”، بالقول: “إنه كان مع المسيرة الخضراء موقف أعطاها قوة الجيش المسلح، وهو قول الحسن الثاني لمجلس الأمن الذي أبرق إليه بسحب المسيرة: لا، لن أسحبها! وهو ما لم يعهده هذا المجلس ولا الأمم المتحدة من العرب..”.
ومن جميل حدوس كنون، التي تبين حرصه الشديد على التوثيق والتعليق بالرأي والفتوى بخصوص كل ما يهم المسلمين، مقالته “أيهما فضح الآخر؟”، التي وثق من خلالها امتعاضه البالغ من الفضيحة المدوية التي جمعت واشنطن تحت عهدة الرئيس ريغان وإيران الخمينية والموساد الإسرائيلي، فيما عرف بفضيحة إيران كونترا أو إيران جيت (1958)، التي تم بموجبها بيع الأسلحة سرا لإيران بوساطة إسرائيلية. وقد ختمها بقوله: “ومن المؤسف أن يكون هذا تصرف ثورة يتزعمها عالم من علماء المسلمين”، يقصد الخميني.
تعلمنا كتابات كنون وتذكرنا في الآن ذاته، بقيمة الرفض، وشجاعة الموقف، وإعلان النوايا، التي لو اجتمعت لكان من شأنها أن ترفع قيمة اللوبي العربي داخل أروقة السياسة الأمريكية، وتجعلهم واحدا من جلساء مائدة التفاوض داخل دواليب السياسة الأمريكية.
وتظهر مقالاته كذلك، كيف كانت الساحة الثقافية والسياسية والفكرية بالمغرب، تعج بآراء هذه الفئة العلمية، مزاحمين رجال السياسة والرأي، بل إنها تبين نظرة هؤلاء لمواقع المسؤولية التي كانوا يتولونها، لا لمجرد المكانة فحسب، أو لالتقاط الصور وبيانات السلم بين الأديان، والتهافت على الاتفاقيات الدولية، وغيرها من البروتوكولات التي افرغت صفة “العَالِم” من حمولته الدينية الثقيلة في العالم الإسلامي، وجعلتها واحدة من الوظائف السامية التي تفيد صاحبها دون أن يكون لها أثر يذكر في واقع الناس!
حفظت هذه المقالات موقفه ومواقف رابطة العلماء، من قضية “تدويل القدس”، التي ترددت حينها في الأوساط السياسية العربية حسب وصفه، معتبرا التدويل شرا لا يقل عن شر التهويد. والرجل يوثق لمسار الحلول التي كانت تُقترح على العرب دون أن تكون من اقتراحهم أو يتمعنوا النظر فيها وفي آثارها المستقبلية على واقعهم، منبها للحقيقة الواضحة التي يتلازم فيها التدويل مع دول استعمارية لا يمكنها أن تخدم إلا مصالحها أولا، ثم مصالح الدولة المُصطنعة التي قاموا بزرعها بين العرب المسلمين.
تذكرنا مقالاته أيضا بعادة إسلامية كانت رابطة العلماء المغربية حريصة على احترامها، وهي انعقاد اجتماعات خاصة بالقضية الفلسطينية، تولدت عنها نداءات تفصح عن حس المسؤولية وإبراء الذمة، لا تخص المغاربة فحسب بل تتوجه للعالم الإسلامي قاطبة. كما هو الحال على سبيل المثال سنة 1976، عندما اجتمعت الأمانة العامة للرابطة تحت رئاسة كنون، لتدارس جريمة السماح للصهاينة بأداء طقوسهم الدينية في المسجد الأقصى، وتحريض المسلمين قاطبة على الاقتداء بالفلسطينيين الذين أدوا ما عليهم من واجب، والقيام بما يجب تجاه هذه الإهانات المتتالية للمسلمين ومقدساتهم.
وقد بلغت الجرأة بعالمنا، التصريح بحقيقة تاريخية لن ترتفع عن واقع المغاربة ما حيوا، “..أن المغربي في كل عصر وفي كل مكان، سيظل الجندي الوفي الأمين، لقضية العرب والمسلمين”. وكنون حين يصرح بأفكاره هذه، كان يستبق مواقف السياسيين، بل وينقل إليهم مواقف العلماء، دون أن يدري -حسب تعبيره- ما سيتقرر، بل إن حدسه جعله يوثق في مقالته “ويل للعرب من شر قد اقترب!!”، ما عليه الحال اليوم، بعد أن صارت العديد من الدول العربية الإسلامية خادمة للمشروع الصهيوني، ومتبنية طروحه حول فلسطين ومستقبل الشرق الأوسط كافة، مستدلا ببيت شعري يصف حال الأمس ويصف للأسف الشديد حال اليوم: يبكي الغريب عليه ليس يعرفه وذو قرابته في الحي مسرور