“عزمي بشارة” والسؤال عما جرى للقيم الكونية
جاء في المقالة الأخيرة للمفكر عزمي بشارة (قضايا أخلاقية في أزمنة صعبة) التي نشرت على موقع المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات (12 نوفمبر 2023) قولة مركزية ستساعد دون شك الرأي العام والمهتمين على فهم جانب مهم مما يحصل اليوم من حرب دعائية على الشعب الفلسطيني، يقول فيها: ” ليست الحقيقة ضحية الحرب الأولى كما يقال، بل تسقط الأخلاق قبلها“.
وعلى هذا الأساس انصب جهده على تشريح بنيتين للفهم، الأولى تتعلق بالسؤال الأخلاقي المرتبط بالحرب الدائرة بين الفلسطينيين والاحتلال، والثانية تحصيل لنوع الإجابة عن السؤال الأول؛ تتعلق بالحقيقة التي سنستخلصها بعد ذلك. فكما هو معلوم تستند المقاومة الفلسطينية فيما تقوم به على حقوق ذات بنية أخلاقية، تكسبها الشرعية في استعمال العنف لمواجهة الاحتلال، وهو الحق نفسه الذي يستخدمه الاحتلال بنوع من التدليس لتشريع حقه هو الآخر فيما أسماه حق الدفاع عن النفس. هذا من جهة أولى، ومن جهة ثانية لاحظ عزمي حجم التوظيف الإعلامي الكبير للعديد من المقولات الأخلاقية التي يمكن الاتفاق على كونيتها، وإجماع العالم على ضرورة احترامها بناء على اتفاقات عالمية متولدة عن حروب ومآس كبيرة سبق ان خاضت البشرية غمارها ولا ترغب في تكرارها، لكن، وهذا هو ما يقلق عزمي، لا يمكن قبول أشكال التلبيس في توظيفها للكيل بمكيالين، ووسائل تحييدها من دائرة النقاش متى كان وجودها مضرا بمصالح الاحتلال.
ولهذا فتشريح البنية المنطقية للدعاية الإسرائيلية غرض أساس عند عزمي في هذه المقالة، وكذلك في مقابلاته التلفزيونية الأربع على قناة العربي الجديد. ولعل هذا التوضيح والمساجلة أسلوب من أساليب مقاومة الظلم في العالم، وليس فقط رفع الظلم الحاصل على الشعب الفلسطيني، لأن الجناية التي ترتكب اليوم هي جناية كذلك في حق الإنسانية وقيمها الكونية، فأكثر ما يضر بالقضايا العادلة حسب عزمي، خلط العادل بغير العادل والبطولي بالإجرامي، والكذب بالحقيقة. وعليه، لابد من قول الحقيقة وممارسة النقد صونا لعدالة القضية الفلسطينية، وكذلك زيادة في مصداقية فعل المقاومة حتى لا يلتبس بما قد يضر بها.
من القضايا الأخلاقية الأولى التي ينبغي تحرير فهمها حسب عزمي، استخدام الدعاية الإسرائيلية لحق كوني ذي منزع أخلاقي، وهو حق الدفاع عن النفس، الذي من المعلوم وبغض النظر عن طرفي النزاع، فإن له سقفا مرتبطا برفع الاعتداء، وليس ترخيصا لفعل كل ما يراد تمريره تحت هذا الغطاء، وهذا عينه ما أقدمت عليه إسرائيل حينما شبهت قصدا حركة المقاومة الفلسطينية “حماس” بتنظيم “داعش” الإرهابي، لتوحد الرأي العالمي على فكرة هي الدفاع عن النفس ليس في مواجهة أصحاب الأرض وإنما الإرهاب، ولا وسيلة لمواجهة الإرهاب حسب المنطق الأمريكي والدولي إلا بالقضاء عليه، ثم إن مجرد النطق باسم داعش حسب عبارة عزمي يجعل كل شيء مباحا. وموضع التلبيس الأخلاقي هنا أن الدفاع عن النفس صار بلا حدود لأنه ضد الإرهاب، وإن اختلف السياق والزمان والمكان والأغراض، ويصير كل القتلى من المدنيين الفلسطينيين أعراضا جانبية للحرب.
وأما القضية الأخلاقية الثانية، كيف اعتبرت الدعاية الإسرائيلية أن ما ارتكبته كتائب المقاومة المجيدة عز الدين القسام يوم 7 أكتوبر 2023، إنما ارتكبته لا لسبب غير أنها شر مطلق، والغرض من هذه الوسيلة هنا، التلبيس على المعطى الأخلاقي المرتبط بالتاريخ، أي أنهم يفصلون المقاومة عند الرأي العام عن تاريخ الاحتلال لفلسطين، ثم يعزلون الحدث بذلك عن كل إمكانية للمناقشة أو التعليل، لأن الشر المطلق، الذي سموه في القضية الأولى “إرهابا” لا علاج له إلا بالقضاء عليه، وكل محاولة من ثم للتبرير والنقاش، أي كان الطرف المقدم عليها، هي تواطؤ مع الإرهاب. وما دام إرهابا موجها ضد اليهود فهو معاداة للسامية. وهذه حسب عزمي وسيلة أخرى ينبغي التنبه لها، غرضها تحييد القضايا الأخلاقية وحجب الحس الأخلاقي.
ولهذا يشدد بأن مقولة الشر المطلق والخير المطلق مناقضة تماما لسمات الأخلاق البشرية، فالمقاومة ليست استهدافا لليهودي كشر مطلق بل مقاومة للمحتل، ورغم كل ذلك فليس مقبولا استهداف المدنيين حسب وصفه، كما أن مقاومة المحتل نفسها ليست خيرا مطلقا، بل ترتبط بالمرجعية الأخلاقية الكونية التي ينبغي دوما للمقاومة أن تستند عليها. وواضح أن عزمي هنا، قد تحلى بجرأة نقدية كبيرة، لينتصر لهذه المقولات الكونية، والتي يرى بأن المقاومة المجيدة كلما كانت صارمة في اتباعها ومحاسبة من يخرج عنها، ستكون دوما قوية بقوة قضيتها العادلة التي لم تخلط الكذب بالحقيقة.
وهو عندما يقول هذا الكلام، يعرف جيدا بأنه يحاول أن يقنع شعبا يعيش في ظل الحصار والعقوبات الجماعية ويعاني الآن حسب عبارته الإبادة الجماعية، معبرا بذلك عن عمق استيعابه لمناخ النقاش السائد، لكنه يصر بأن ذلك لا ينبغي أن يمنع من مناقشة أخلاقيات المقاومة نفسها. وهذا تجرد فكري ونقدي أقل ما قد يوصف به، أنه مكمل طبيعي ومنطقي لا غنى لكل مكونات المقاومة والحركات التحريرية من قبولها، إن أرادت لقضاياها العادلة أن تحسن استثمار أرضية القيم الكونية، ومنظومة حقوق الإنسان والمواثيق الدولية، التي هي واحدة من أقوى أدوات المحاججة اليوم، وأهمها تأثيرا في الرأي العالمي.
من القضايا الأخلاقية التي يحرص عزمي على نقاشاها كذلك، ما اسماه الكيل بمكيالين تجاه مصير الأخلاق الكونية اليوم، ويعتبر أن الخلط الذي يقع هنا، يستهدف بالخصوص جيل اليوم، الذي أبدى وعيا دوليا نوعيا ومحترما تجاه القضية الفلسطينية وغيرها من القضايا العادلة، غير أن هنالك جهات عدة وتحت مبررات مختلفة، تحاول دفعهم تحت وقع الصدمة مما يحصل من ترد أخلاقي، إلى عدم الايمان بالقيم والأخلاق الكونية، والتنقيص من قيمتها، وإنكارها، وهو بذلك يوجه انتقادا آخر لبعض من أشكال الوعي عندنا في المنطقة العربية الإسلامية مفاده: أن الكيل بمكيالين ليس احتكارا غربيا.
ومن القضايا الأخلاقية أيضا، “استخدام الهولوكوست” التي يرى عزمي بأنها قضية أخلاقية إنسانية لا ينبغي إنكارها، ولا ينبغي الإساءة لها عبر توظيفها في سلب الشعب الفلسطيني حقه. ويضيف عزمي أن هذه المشكلة أوروبية صرفة، لا علاقة للعرب والمسلمين بها.
خلاصة القول، التي يريدنا الكاتب التنبه لها، أن الأساليب التي توظفها الدعاية الإسرائيلية للتأثير في الرأي العام الغربي والعالمي، عبر الواجهة الإعلامية خصوصا، لا يمكنها أن تقفز على القيم الكونية والإنسانية، لهذا استخدمت دولة الاحتلال وسائل لتحييد هذه القضايا الأخلاقية وخلطها، كما حورت معانيها لصالحها، حتى تتجاوز كل المبررات الأخلاقية التي قد تطالب بها. ولهذا من شأن فضح هذه الوسائل والوعي بها أن ينضاف لرصيد بطولات المقاومة ومجد إنجازاتها العسكرية والتخطيطية حسب عبارة عزمي وليس أن ينقص منها.