حوار مع الخبير التونسي في مجال التربية والتعليم د. مصدق الجليدي

من معلم في أحد أرياف تونس إلى أكاديمي في أعرق الجامعات التونسية، فخبير تربوي لدى منظمات دولية.
مر الأستاذ مصدق الجليدي بجميع أطوار التعليم، مربيا ومدرسا وأكاديميا، استطاع أن يشق مساره التكويني والعلمي، رغم الاكراهات التي اعترضت سبيله، لكن عشقه للمعرفة والعلم والاقبال على القراءة بنهم في تخصصات مختلفة، ساهمت في صنع مثقف مناضل ملتزم. قادته الظروف للتخصص في المجال التربوي ، حيث تميز منجزه الفكري والتربوي بالتنوع والتركيب، والجمع بين الأصالة والحداثة. فالقارئ لمصدق الجليدي يلحظ وعيه بمشاكل الفكر التربوي في تراثنا، وفي الآن ذاته استيعابه الجيد للفكر التربوي الحديث وفراغاته، لذلك استطاع أن يؤلف بين نقط القوة في كلا الفكريين التربويين ليضع بين أيدي النخب التربوية ما أسماه نظاما تربويا أصيلا يراعي خصوصية الهوية الحضارية للبلدان العربية والاسلامية كمشروع تربوي يحتاج إلى التداول والنقاش والتسديد والنقد .
تجدر الإشارة أن الدكتور مصدق الجليدي درس في دار المعلمين ببنزرت: إختصاص الفيزياء والكيمياء. وجامعة الزيتونة: الإستاذية في العلوم الإسلامية. والمعهد الأعلى للتربية والتكوين: الأستاذية في علوم التربية. وكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس: المرحلة الثالثة والدكتوراه في علوم التربية. وهو حاليا يؤطر طلبة الدكتوراه في التربية والحضارة الإسلامية بجامعة الزيتونة.
أجرى الحوار: عبد العزيز راجل
- وردت في طيات العديد من إنتاجاتكم ؛ مفاهيم من قبيل الأصالة المبدعة، والحداثة الأصيلة، التنوير الاسلامي، وقد جعلتها عناوين لبعض مؤلفاتكم، كيف استطعت أن تؤلف بين هذه الثنائيات المتناقضة؟ وهل يمكن أن تبسط لنا مدلولات هذه التراكيب الاضافية بإجمال؟
الحداثة الأصيلة هي التأليف المبدع بين مفهوم الهوية التي تجد نواتها الأصلية في منظومة الاعتقاد والقيم القرآنية، ومفهوم الحداثة الذي انبجس عن فلسفة الذات في السياق الأوروبي الحديث ولكنه يجد أول بذرة له في الوحي الأخير كذلك، وقد وقع تمثّلهُ على بعض الأنحاء من قبل بعض علمائنا الكبار في مجاليْ الطبيعيات والطبائع العمرانية، بتخليصهم لهما من شوائب الميتافيزيقا الدغمائية كالتي ساقتها لهم الأفلاطونية المحدثة، ومن العوائق الإحيائية والغيبوية الأنتروبومورفية، قطعا مع التقليد العلمي اليوناني فيهما، لينبثق بعد ذلك مفهوما نظريا وإجرائيا مصاغا على نحو منهجي في سياق الحضارة الأوروبية الحديثة القاطعة مع ماضيها الأهلي البعيد (الماضي اليوناني) بعد استئناف نهضتها انطلاقا منه عبر قنوات تمِثّلُ العقلانية الرشدية إحدى أهمّها، ولكنها المتصلة بماضيها القريب أيضا، ماضي اتصالها بالعالم الإسلامي الموسوم بتقدم العلوم العربية خارج الأفق الابستيمي اليوناني وضمن ابستيمية ختم النبوة بما هو رفع للوصاية عن عقل الإنسان، ودعوة حرة للنظر في السماوات والأرض لبناء علوم الطبيعة، وفي تاريخ الأقوام وأحوال المجتمعات لبناء علوم العمران البشري.
إن القيمتين الأساسيتين للحداثة كما يذكّرنا بذلك آلان توران في كتابه “نقد الحداثة” هما الفرد والعقلانية. ولقد كان من المستحيل على الفكر الغربي بناء مفهوم الفرد انطلاقا من الفلسفة اليونانية، لأن أكبر نص فيها هو النص الأفلاطوني الذي يروج في “الجمهورية” لأسطورة المعادن التي يتراتب الناس وفقها مراتب وجودية (ومن ثمة اجتماعية) كتراتب المعادن”. هذا، بينما نجد القرآن الكريم، وبمنتهى الموضوعية والعلمية، يذكّر الجميع بالأصل الطبيعي الواحد للإنسانية (من نفس واحدة).
أما المكون الثاني وهو العقلانية، فقد وجد أساسه الأول كذلك في الوحي الأخير الذي حثّ على النظر العقلي الإشكالي لما في السماوات والأرض وعلى استخدام العقل في ما نرى وما نسمع وأن نأخذ بالأسباب الموضوعية لبناء العالمين المادي والاجتماعي، وهو ما أفرز لاحقا كل ذلك التّراث الفلسفي والعلمي في الحضارة الإسلامية، متوَّجا بترييض العلوم الطبيعية، كما في بصريات ابن الهيثم، وفيزياء البيروني، واستخدام منهج الدراية والملاحظة التجريبية الاستقرائية في بناء علوم الطبيعة وعلم العمران البشري والتاريخ (ابن خلدون) ومنهج المقاصد الشرعية في بناء أحكام العقل العملي (الشاطبي وابن عاشور).
- 2- من القضايا المشتركة بين جل البلدان العربية، قضية إصلاح المنظومة التربوية، في ظل تسارع التحولات خصوصا في المجال الرقمي؛ كيف يتم تدبير اختلالات المنظومة التربوية في الوطن العربي لتساير الايقاع السريع للعصر؛ رسميا ومدنيا؟
د. مصدّق الجليدي: قضية الإصلاح التربوي ليست قضية تكنولوجية بالمقام الأول في رأيي، فالتكنولوجيا تأتي خدمة لغايات ومرام وأهداف تربوية وتعليمية، وتنزيلا لخيارات بيداغوجية، وتكريسا لتوجهات العقلنة والحكامة للنظام التربوي. لا تنفع التكنولوجيا مع نظام تربوي لا يتمتع بالاستقلالية ولا مع طرق بيداغوجية غير بنائية. حيث يمكن أن تُستخدم وسائل التواصل الرقمية الحديثة لتكريس تعليم بنكي بمجرد تمرير معلومات على الشاشة المشاهدة جماعيا أو في الحواسيب أو الهواتف الذكية، دون مشاركة نشطة من المتعلم في بنائها وتقييمها ونقدها. قد تكرّس هذه التكنولوجيا البلادة الذهنية والسذاجة والبلاهة والتفاهة، بجعل المتعلم مجرد متلق سلبي لدفق المعلومات التي تظهر له عبر أنظمة التلقي الرقمية. كما أن هنالك خطر التجاهل التام للقيم الأخلاقية والوطنية والدينية في الاستخدام الجاف للتكنولوجيا في التعليم. ولذا يبقى دور الفاعل التعليمي الإنساني أساسيا في العملية التربوية. ومع ذلك لا بد من الاستعداد لحسن التعامل مع الثورة الجارفة الوافدة حاليا في مجال الذكاء الاصطناعي. لا بمجرد حذق كيفية طرح أسئلة بصفة تقنية على برمجيات هذا الذكاء الأمريكي أو الصيني أو العولمي، بل بتملك ناصية تصميمه وبرمجته على خلفية قيمية ووطنية أصيلة ووفق تكنو-ايتيقا مقبولة عالميا. فالبرمجيات الحالية ليست بريئة، بل تسوق قيما وإشراطات ليست دائما في صالح أولوياتنا ومعاييرنا الوطنية ولا حتى المعايير الإنسانية الكونية بوجه عام.
- 3- من القضايا التي تثير الجدل والنقاش في ما يخص إصلاح المناهج التربوية، قضية التعليم الديني، ثمة من يعد الاهتمام بالتعليم الديني منهجا ومحتوى من الضرورات الواقعية والشرعية على حد سواء، والبعض يعده مصدر العديد من المشاكل، حيث يحول دون دخول بلداننا العربية عالم الحداثة، في حين يرى آخرون إلى ضرورة عقلنة الوعي الديني، ليتناغم مع التنوير الحداثي، بنظركم ما هو الموقف الصائب أو المناسب للحظة الراهنة ؟
د. مصدّق الجليدي: لقد كشفت ظاهرة ما عرف بثورات الربيع العربي عن ظواهر مكبوتة عدّة، من بينها البروز الكبير للظاهرة الإسلاموية السلفية المتشددة. وللظاهرة الأخيرة أسباب عديدة يندرج بعضها في إطار عولمي عام اتسم ببروز تيارات “الجهل المقدس”، حيث ينفصل الدين عن الثقافة ليكتسح العالم في شكل غزو عالمي متشنج بل وعنيف في أحيان كثيرة. غير أن واحدا من هذه الأسباب يقع في مجال التربية وبمعنيين متقابلين: نقص حاد في التربية الدينية وإفراط فيها في الآن نفسه: نقص فادح في التربية الدينية المستندة إلى أسس علمية محتوى وطريقة وأسلوبا، وإفراط في اعتماد صيغة نصّية حَرفيّة للدين منتزعة من كل سياق ثقافي وتاريخي واجتماعي واقعي وباعتماد أسلوب تبليغي تقريري وعظي يكاد يكون إجباريا وإلزاميا. لذلك على التعليم الديني الجديد اليوم العمل على رفع ذاك الجهل المقدس وتوعية الشباب بمقاصد الدين السمحة وحمايته من التطرف والانخراط في العنف في الآن نفسه. وإن إحدى أوضح السبل لبلوغ هذه الغاية هي بناء التعليم الديني على أسس بنائية علمية متينة.
المطلوب اليوم هو اعتماد التنوير الديني في التربية والتعليم بدل سياسة تجفيف منابع التدين والروحانية التي أدّت إلى تصحّر في الثقافة الدينية وخواء في التجربة الروحية، مما جعل الشباب لقمة سائغة لمحتطبي الإرهاب النافخين في كيره. تعميق الثقافة الدينية والتكوين العلمي الشرعي على أسس تنويرية ضمانة من ضمانات السلم الروحي والأهلي وحصن متين من الحصون ضد التطرف والإرهاب.
المطلوب في التعليم الديني التنويري هو ممارسة نقل تعليمي مناسب، حيث إن عملية النقل التعليمي في مجال التربية والتفكير الإسلامي يجب أن تبدأ بإعادة تقييم المنزلة المعرفية للعلوم الإسلامية القديمة وعدم استنساخها كما هي، وحشو عقول الناشئة بها، كما لو أنها حقائق مطلقة ونهائية ولم تتعرض لعمليات إنتاج وإعادة إنتاج تاريخي ونقد معرفي على يد علماء الأمة السابقين أنفسهم، فضلا عن قابليتها للنّقد من اللاحقين منهم في الوقت الحاضر. ومجال الفقه وأصوله والمقاصد وعلوم القرآن والحديث كلها حظائر للعمل والفهم والاستيعاب والمراجعة والتقييم والتطوير والتجديد والإصلاح على يد العلماء المختصين المعاصرين، كما كان الحال مع الشيخ الطاهر ابن عاشور في المقاصد مثلا، ومحمد إقبال في الفلسفة الإسلامية وغيرهما من المفكرين والعلماء المجددين. هذا كله عمل جبار يجب أن يسبق بناء المعرفة المدرسية في مجال التعليم الديني. وليست الساحة خلوا من اجتهادات محمودة في هذا الاتجاه ولكن يجب على المختصين في وضع المناهج التعليمية الانتباه إليها ورصدها وتخيّر الأنسب منها لإبستيمية العصر الحديث ولروحانية الأمة التي هي روحانية توحيدية استخلافية، في نفس الوقت، مع ضرورة مواصلة جهود التجديد والإصلاح في الفكر الديني والعلوم الإسلامية.
- 4- تتسم أغلب البلدان العربية في تركيبتها الديمغرافية بالتنوع الإثني والثقافي والديني، مما يطرح موضوع التربية على التعددية الدينية والثقافية في مجتمعاتنا العربية والاسلامية، كيف يتم تدبير هذا النوع من التربية في بيئة يسود فيها الفكر “المانوي”، وقراءات ظاهرية للنصوص، وتنامي التعصب والانغلاق الهووي؟
د. مصدّق الجليدي: نوصي على هذا الصعيد بإيجاد مساحات في المناهج التابعة للبلدان ذات التنوع الاثني والثقافي والديني للتربية على الحوار والعيش المشترك مع إخوتنا العرب أو الأفارقة المختلفين عنا في الديانة (مصر، فلسطين، لبنان، سوريا، العراق، وفي البلدان الإفريقية ذات الأقليات غير الإسلامية…الخ) أو في المذهب (لبنان، سوريا، العراق، إيران…الخ)، مع تركيز شعور الأخوة الدينية الجامعة بين المسلمين أيا كانت مذاهبهم، خصوصا بين السنة والشيعة في لبنان وفي العراق وغيرها… ومن الطرق المقربة لهذه الغاية هي التعريف بديانة الآخر كما يقدمها هو نفسه، والتعريف بمذهب الآخر، مع التركيز على التأويلات المعتدلة في مستوى كل ديانة أو في مستوى كل مذهب، حيث تكون الغاية هي الإيلاف وليس الاختلاف. والأهم من التربية اللفظية هو التكريس الفعلي للتعايش السلمي والودي في المدارس والجامعات وخارجها. أما طلبة الدراسات العليا فلا بأس أن يدرسوا مختلف المدارس الدينية والمذهبية بعقلية علمية موضوعية، بعد أن كانوا قد تشربوا روح التعايش والتآخي مع الآخر. كما تحترم الطقوس غير الوثنية لأهل الديانات والمذاهب وتمنح لأتباعها حرية ممارستها في المؤسسات التربوية إن هم طلبوا ذلك، بما لا يعطل السير العادي للدروس وبما لا يتعارض مع التراتيب المعمول بها. ويجتنب التعليم الطائفي، إلا في إطار الطائفة، أي عدم فرض تعليم ديني لطائفة على أبناء طائفة أخرى، إلا اللهم بعد أخذ الإذن الحر بعيدا عن أي نوع من أنواع الضغوط، من الولي، وهذا من مشمولات الدول والحكومات. وهو ممارس بوضوح وثبات في حضارتنا الإسلامية ومؤصل في تراثنا التربوي الأصيل. ولا يكون تمثيل المدرسين والطلبة على الأساس الطائفي في المجالس العلمية أو في مجالس الطلبة أو الأقسام، بل على أساس معايير عقلانية وقانونية وديمقراطية محضة.
5- من بين إصداراتكم في السنوات الأخيرة، كتاب “البنائية الاستخلافية: بديل تربوي حضاري” (الأصالة للنشر، الجزائر، 2022): ماذا تقصدون بهذا المفهوم؟ هل له علاقة بالنظام التربوي في الخلافة الإسلامية، أم تقصدون بذلك التربية وفق الوظيفة الاستخلافية للإنسان عموما؟
د. مصدّق الجليدي: لا علاقة لمفهوم “البنائية الاستخلافية” مطلقا بنظام الحكم الذي ظهر في التاريخ الإسلامي والمعروف بالخلافة. بل هو مفهوم نفسي- تربوي- حضاري يخص كل الجنس البشري المتأهلين للقيام بأعباء الاستخلاف. مع أن الأكثر تأهلا لذلك من حيث المبدأ هم من يلتزمون بسنن الله في الكون والحياة.
ظهر مفهوم البنائية الاستخلافية، من خلال كتابنا المذكور آنفا، لأول مرة في الأدبيات التربوية الحديثة الأصيلة، فقد اجترحناه جمعًا إجرائيا بين نظريةٍ نفس- معرفية وفلسفةٍ وجوديةٍ وأخلاقية. أي وَصْلًا بين الطبيعي والثقافي والروحي في الإنسان..
فأما النظرية التي انطلقنا منها فهي النظرية البنائية التي ظهرت في صيغتها الصريحة الناضجة الأولى، بفضل ولادة مفهوم الإنسان في السياق الحديث وتطور علوم الحياة والوعي، لدى عالم البيولوجيا ومؤسس الابستمولوجيا النشوئية جان بياجيه (1936؛ 1937؛1964) ثم تطورت إلى بنائية معرفية اجتماعية(مع دواز ومونيي السويسريين، 1981؛ 1997) وإلى بنائية ثقافية (مع ڥيغوتسكي الروسي، 1934 وجيروم برونر الأمريكي، 1990) فإلى نيوبنائيات (بنائيات جديدة) مثل البنائية النقدية )مع تايلور، 1996 و1998) وأخيرا إلى بنائية مفتوحة (مصدق الجليدي، 2008) وإلى بنائية بَنّائيّة (أكّرمان وزملاؤه، 2009).
وأما المرجعية الثانية لمفهوم البنائية الاستخلافية فهي فلسفة في التوحيد الاستخلافي استلهمناها من القرآن الكريم ومن الأنتروبولوجيا العمرانية الخلدونية ومن روح الحضارة الإسلامية في أطوارها الأصيلة المبدعة.
وهذا التأليف الذي نقوم به بين المرجعيتين العلمية والحضارية ليس تعسّفا على الروح العلمي ولا على العقل العملي صانع الحضارة. فالبنائية كما سبق ذكره قد غادرت منذ عقود نموذجها الإرشادي البيولوجي الذي أسسه رائدها جان بياجيه باعتباره عالم بيولوجيا، فاستقدم إلى الابستمولوجيا النشوئية من هذا الحقل العلمي مفاهيم مثل الاستيعاب والملاءمة والتكيف واختلال التوازن والتوازن الأرقى والمضيف، لتضع هذه المتعضية (الكائن العضوي) فائقة التعقيد الذي هو الحيوان العاقل في محيطه الذي لا يحيا من دونه ومن دون التفاعل معه وهو المحيط الاجتماعي والثقافي. فاعتبر ڥيغوتسكي رائد التيار التاريخي- الثقافي أن البنى الثقافية السابقة على البنى العلمية ضرورية للانطلاق منها كنقاط ارتكاز لظهور البنى الذهنية الجديدة الأكثر ملاءمة للوضعيات التي يعيشها الفرد، إما بتعديل التصورات الثقافية المحمولة أو بالاعتماد عليها. كما أقر جيروم برونر بأن أي تغيير مفهومي يتم ضرورة داخل سياق ثقافي مخصوص وجب أخذه بعين الاعتبار. فيمكن القول إن البنائية الاستخلافية بنائية موسعة للبنائية الاجتماعية والثقافية إلى بنائية تهم كل الجنس البشري لكن لا بصفتهم مجرد كائنات حية عاقلة وذكية متفاعلة مع محيطها الحيوي من أجل تأمين الحياة، بل بصفتهم أعضاء في الاجتماع البشري العالمي انطلاقا من الخصوصيات الثقافية لكل جماعة ينتمون إليها، بمدّ جسور الأخوة الإنسانية على دعائم أخلاق تعارفية تبادلية.
ما نريد توضيحه أخيرا هو أن الاستخلاف متضمن ضرورة للروح البنائية، لا بمعنى البناء والإعمار فقط المنصوص عليه في قوله تعالى: “هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا” (هود: 61) مع قوله تعالى: “وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ”(الأنعام: 165)، وإنما خاصة لأن الاستخلاف هو الوظيفة التكليفية الكبرى التي يتحمّلها الإنسان فرديا حتى وإن احتاج في تنفيذها إلى التعاون مع بني جنسه. الوعي الاستخلافي وعي بنائي بالضرورة، حيث إن القضية “الاستخلافُ بنائيٌّ” قضيةٌ تحليليةٌ بما أن محمولها (البنائية) متضمن ضرورة في موضوعها(الاستخلاف). ولنزِدْ هذا الأمر إيضاحا. من المعلوم أن البنائية ترتكز أساسا على دور الفرد بصفته ذاتا عارفة في بناء المعرفة. في البنائية الاستخلافية التي هي أوسع مجالا وأبعد مدى من مجرد تحليل تفاعلات تكيُّفِيّة للفرد مع محيطه الحيوي من أجل الحياة والنمو، تتطور الذات العاقلة إلى مستوى تحمل وظيفة أكبر بكثير من الوظيفة التي يتحملها الفرد موضوع أبحاث البنائية لدى جان بياجيه، إنها وظيفة كبرى وجودية وحضارية وعمرانية، وظيفة “الإنسان الرئيس” التي أقرّها ابن خلدون للإنسان في إطار فلسفته العمرانية الاستخلافية. وهو الإنسان الخليفة المكرّم إلهيّا والمحمّل أمانةَ الحرية والمسؤولية والقدرة على إعمار الكون المسخر له أفرادا وجماعات. في هذا المفهوم تجتمع ميزات شاملة ومتكاملة: ميزات تعود إلى ضرب الوعي الوجودي الشهودي التوحيدي وإلى المستوى الروحي والقيمي وإلى الفاعلية والقدرة على التأثير في العالم وإعادة بنائه وتشكيله خدمة لحاجات العمران البشري بروح تواصلية تعارفية وتبادلية مع بقية أفراد الجنس البشري وجماعاته.