الاغتراب والقلق الوجودي
مفهوم (الظمأ الأنطولوجي) من المفاهيم التي اجترحها المفكر العراقي عبد الجبار الرفاعي للتعبير عن ظمأ الانسان الى ما يثري وجوده، وهو بتعبيره “الظمأ للمقدس، أو الحنين للوجود، لأنه ظمأ الكينونة البشرية، باعتبار أن وجود الإنسان وجود يحتاج إلى ما يثريه. فظمأ الانسان في بعده الانطولوجي متجذر فيه ومهمين على وجوده بالكامل، وهو المفهوم الوحيد الذي بإمكانه أن يجيب عن تساؤلاتنا حول سيادة ظاهرة الإرهاب وتفشيها بين الشباب في الغرب وغيره، ممَّن هم في كفاية معاشية، وبعضهم يعيش ترفاً مادياً، وفي هذا الإطار يتساءل “فما الذي يدفعهم للهجرة إلى ولائم الذبح، وحفلات الرقص على أشلاء الضحايا في بلادنا. والتسابق على الانخراط في وحشيّة عبثيّة، تتلذَّذ بالدم المسفوح، وتتهافت على مغامرات مهووسة في العمليات الانتحاريّة؟”. ويجيب “إنَّ ذلك يعود إلى ما يعانونه من ظمأ أنطولوجي للمقدَّس، وبسبب رتابة الحياة، وذبولها وانطفاء المتعة التي تمنحها لهم الملذَّات الحسِّية”.
والظمأ بما هو تعبير عن الحاجة والنقصان والفقر، فهو ينطلق بالأساس من مفهوم الاستلاب والاغتراب بأنواعه والتي تنبع بالأساس من الاغتراب الميتافيزيقي – الديني، لكن بمنظور يغاير تصورات فيورباخ الذي يرى “أنه لا يوجد تباين واختلاف بين الطبيعة الإلهيّة والطبيعة البشريّة أي أنّ الإنسان نزع عن نفسه صفاته وتنازل عنها لله – أي أن الله أنموذج ذهني من تصورات الانسان ذاته – ونتج عن ذلك اغترابه وضعفه وعجزه واستلابه وقد ربط فيورباخ الاغتراب بالدين واعتبره المصدر الأساس للاغتراب، حيث أن فكرة الله تسلب الإنسان ذاته وذلك لاعتقاده بوجود قوة مفارقة له متميزة ومختلفة، وبذلك فالاغتراب الميتافزيقي هو غير أشكال الاغتراب الأخرى. يقول الرفاعي: “الاغتراب الميتافزيقي كما أصطلحُ عليه، هو اغتراب وجودي عن العالَم الميتافيزيقي. وهو ضربٌ من الاغتراب يختلف عن اغتراب الوعي والاغتراب الاقتصادي والاغتراب الاجتماعي والاغتراب النفسي والاغتراب السياسي. ينشأ هذا الاغتراب عندما يحبس الإنسانُ وجودَه بالوجود المادي الضيق، فيختنق باغترابه عن الوجود الميتافيزيقي. وينتج عن ذلك تمزق الكينونة الوجودية للإنسان وضياعها بتشرّدها عن الأصل الوجودي لكلِّ موجود في عالَم الامكان. يفتقرُ الإنسانُ في وجوده المتناهي المحدود إلى اتّصالٍ بوجودٍ غنيّ لا نهائيّ لا محدود، وعندما لا يتحقّق له مثلُ هذا الاتّصال الوجوديّ يسقطُ في الاغترابِ الميتافيزيقيّ. الاغترابُ الميتافيزيقي يعني أنَّ وجودَ الذَّات البشرية وكمالَها لا يتحقّقان ما دامتْ مغتربةً في منفى عن أصلها الذي هو الوجود الإلهي”. نقطة الاختلاف تكمن في أن الخلاص من الاغتراب في الأنواع الأخرى لا يعني الخلاص من الاغتراب الميتافيزيقي، والى هذا يشير الرفاعي: “على الرغم من الآثار الموجعة لاغتراب الوعي والاغتراب الاقتصادي والاجتماعي والنفسي والسياسي، لكن الخلاص من الاغتراب في هذه الأنواع لا يعني الخلاص من الاغتراب الميتافيزيقي”. ويرجع الرفاعي أسباب عدم القدرة من الخلاص من الاغتراب الميتافيزيقي “لأن الاغتراب الميتافزيقي اغتراب لكينونة الكائن البشري عن وجودها، وهذه الحالة من الاغتراب تنتج القلق الوجودي إذ بعد أن يفتقد صلته بإلهه يفتقد ذاته”. بمعنى أن الكائن البشري لا يمكنه الخلاص من اساس اغترابه، الا إذا استطاع ان يجد تلك الصلة بينه وبين إلهه فيصل الى حالة من التسامي والتصالح مع الذات وحبها. وطبعاً قد تختلف رؤية الانسان للإله فقد يكون الإله عند البعض هو المال او المادة المشبعة لأنواع الغرائز أو هو شخص ما أو عقيدة ما أو رمز ما، لكن ما يقصده الرفاعي بالإله هنا هو الله تعالى كحقيقة مطلقة يصعب إدراكها؛ لذلك فإن البحث عنها يظل دائماً هو الهدف من خلق الانسان للارتقاء بذاته وتساميها في رحلة البحث هذه، ولذلك فهو يقول بخلاص الانسان من أنواع الاغتراب من دون التمكن من الخلاص من الاغتراب الميتافيزيقي إلا في حالة الاقتراب من الحقيقة المطلقة حيث يتحول المنظور”الى الإله من منظور عدائي الى منظور قائم على الحب” بمعنى أن الخلاص من الاغتراب الميتافيزيقي يكمن في الدين بتجلياته الروحية والأخلاقية والجماليّة.
الإنسان كما يشير الرفاعي “كائنٌ متعطِّشٌ على الدوام إلى ما يرتوي به، ومن خلال البعد الأنطولوجي في تصوراته: يمكنه العبور إلى جوهر الدين، وبه يرتوي الظمأ للمقدَّس، وبه يتذوَّق الأبعاد الجماليّة، ويدرك ما يفيضه الدينُ على مشاعر المتديِّن في عالمنا، من جمال”، ومحبة وتسامح نابعة من منظومة تيولوجية مترشّحة عن الدين كحقيقة انطولوجية لها تجلياتها الجماليّة التي تروي ظمأ الانسان الى الكمال، وهي بذلك تختلف عن حقيقة الدين في طابعها الايديولوجي الذي يسيس وجودنا دون أن يثريه.